افتتاحية LebTalks: السيادة والعدالة على المسار الصحيح.. وحصار يخنق اقتصاد الدويلة

leban

مرة جديدة، يؤكد الفريق السيادي في لبنان أنه الطرف الوحيد الذي لا يزال ثابتاً على طريق الإصلاح والتغيير، رغم كل العراقيل ومحاولات التعطيل. فوز مرشح القوات اللبنانية بمنصب نقيب المحامين في انتخابات أمس لم يكن حدثاً نقابياً عادياً، بل محطة سياسية، قضائية ذات دلالات واسعة. هذا الفوز أعاد التأكيد أن الجسم النقابي في لبنان لا يزال قادراً على خوض معارك السيادة والشفافية، وأنه يشكل خط الدفاع الأول عن فكرة الدولة وعن العدالة التي يسعى كثيرون إلى دفنها.

ففي بلد تحجب فيه الحقيقة حين تهدد أصحاب النفوذ، يشكل انتخاب نقيب مستقل وواضح الاتجاه خطوة بالغة الأهمية لإعادة مسار العدالة إلى سكته الصحيحة. ومع هذا التغيير، يكتسب تحقيق انفجار مرفأ بيروت دفعاً معنوياً ومؤسساتياً جديداً، بعدما جرى استنزافه وتعطيله تحت وطأة الترهيب السياسي والضغوط التي مورست على القضاء. فوجود قيادة نقابية منحازة للعدالة والمؤسسات سيعطي الغطاء المطلوب لاستمرار التحقيق، ويعيد التذكير بأن قضية المرفأ ليست ملفاً عادياً بل جرحاً وطنياً مفتوحاً لا يمكن طمسه بالوقت أو بالتخويف.

على المقلب الآخر، يواجه حزب الله اليوم واقعاً سياسياً ومالياً غير مسبوق، "الحزب" الذي بنى نفوذه على معادلة القوة فوق القانون، يبدو اليوم محاصراً من جهات ثلاث، أولاً، عسكرياً، نتيجة الانهاك الناتج عن انخراطه في حروب خارج الحدود واستنزاف بيئته الحاضنة.

ثانياً، سياسياً، بعدما بات عاجزاً عن فرض إيقاعه على الدولة كما اعتاد، في ظل تراجع حلفائه وتقدم القوى السيادية في معظم الاستحقاقات.

ثالثاً، مالياً، فيعيش "الحزب" اليوم واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخه، إذ بات محاصراً بسلسلة متشابكة من الإجراءات الداخلية والخارجية التي طالت شبكاته الاقتصادية ومصادر تمويله التقليدية. فـ"الحزب" الذي بنى جزءاً كبيراً من قدرته على منظومة مالية رديفة تعمل خارج رقابة الدولة، يجد نفسه اليوم أمام تشديد غير مسبوق على حركة الأموال والتحويلات والأنشطة التي كانت تدار بهدوء لسنوات.

العقوبات الدولية التي فرضت تباعاً على شخصيات ومؤسسات مرتبطة به لم تعد مجرد إجراءات رمزية، بل تحولت إلى شبكة ضغط فعلي تضيق الخناق على الحركة المالية لـ "الحزب" في لبنان والخارج. ومع ارتفاع مستوى الرقابة الأميركية والأوروبية على المصارف وشبكات التحويل، باتت أي عملية مالية، مهما كانت صغيرة، عرضة للتتبع، ما فرض على "الحزب" اعتماد قنوات بديلة أكثر تعقيداً وكلفة وأقل أماناً.

إلى جانب هذه الضغوط الخارجية، جاء التشدد الداخلي ليمثل نقطة تحول إضافية، تعليمات مصرف لبنان الأخيرة، التي شددت الرقابة على حركة الأموال النقدية والتحويلات وعلى حسابات الجمعيات والمؤسسات، لم تكن مجرد إجراءات روتينية، بل وضعت حداً لاستخدام النظام المصرفي كمنطقة رمادية يمكن الالتفاف عبرها على العقوبات. فإقفال النوافذ التي استغلها "الحزب" لسنوات في التوظيفات، والتحويلات النقدية، والأنشطة المالية المغلّفة تحت عناوين خدماتية أو اجتماعية، شكّل ضربة مباشرة للبنية التمويلية التي يعتمد عليها.

وتتلاقى هذه الإجراءات مع مسار إصلاحي أوسع داخل القطاع المالي، يقوده حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، بهدف إعادة هيكلة القنوات المالية وتنظيفها من أي مساحات غير شرعية. وهذه الخطوات، وإن كانت تطرح في إطار "تنظيم القطاع"، إلّا أنها عملياً تقطع شوطاً كبيراً في تقليص نفوذ الاقتصاد الموازي الذي شكل لعقود مصدر قوة لـ"الحزب".

ومع هذا المسار المتصاعد من التشدد المالي، بات "الحزب" يواجه حقيقة لم يعد ممكناً إخفاؤها، شبكة التمويل التي لطالما كانت مصدر صلابته تتحول تدريجياً إلى نقطة ضعفه الأكبر، خصوصاً في بلد بات خاضعاً لرقابة مصرفية دولية صارمة، وفي مؤسسات مصرفية لم تعد قادرة، ولا راغبة، على تحمّل الأكلاف القانونية والسياسية لأي خرق.

إن الحصار المالي المفروض اليوم على "الحزب" لا يهدف فقط إلى محاصرته كتنظيم، بل إلى إعادة ضبط الدولة ومنع استمرار وجود اقتصاد موازٍ يتعارض مع أي محاولة إصلاح جدية.

فـ"الحزب" يحاول أن يبقي قبضته مشدودة على الدولة، عبر استخدام أدوات الضغط، وإعادة خلط الأوراق السياسية، وتقديم نفسه كصاحب القرار في الأمن والسياسة والاقتصاد. لكن الوقائع الأخيرة تظهر عكس ذلك، الفريق السيادي يزداد قوة، والنقابات تنتفض، والرأي العام يتحرك، والمؤسسات الدولية تراقب، والمسار الإصلاحي بدأ، ولو ببطء، يشق طريقه داخل الدولة.

قد لا يكون الطريق سهلاً، وقد تتكاثر محاولات العرقلة، لكن تجربة الأيام الماضية أثبتت أن السيادة ليست شعاراً، بل مشروعاً سياسياً واجتماعياً متكاملاً يحظى بغطاء شعبي ونقابي وقضائي. وبين حزب يسعى إلى التحكم بمفاصل الدولة، ودولة تبحث عن نفسها وعن مستقبلها، يبدو أن الكفّة تميل تدريجاً نحو مشروع الدولة لا مشروع الدويلة.

والمطلوب اليوم، رغم كل ما يشهده لبنان من تغيّرات ومحاولات مستمرة لجرّ الدولة خارج مسارها الطبيعي، أن تنتقل الدولة بشخص رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، من الاكتفاء بالمواقف والتصريحات إلى مرحلة القرارات الفعلية.

فالمشهد السياسي يفرض على الدولة أن تستعيد دورها كمرجعية وحيدة، وأن تترجم التغيّرات الحاصلة بخطوات حقيقية تعيد انتظام المؤسسات وتمنع أي محاولة لفرض وقائع جديدة خارج إطار الشرعية.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: