✒️ كتب الياس الزغبي
يسأل كثيرون، من المواطنين العاديين وقادة الرأي وأهل السياسة، لماذا الاصرار، مرةً بعد مرة، على مقولة أن “الشيعوية السياسية العسكرية” دخلت مدار الانحدار، بينما كلّ المؤشرات تؤكّد أن “حزب اللّه”، بدعم إيراني غير مسبوق، يستبيح الشرعية والسيادة اللبنانيّتين، ويفرض أداءه على المؤسسات والطبقة السياسية، ويتحكّم بالقرار اللبناني وإنتاج السلطة طرداً وعكساً، أي أنه يسمح بتشكيل حكومة أو يعرقل ولادتها ساعة يشاء، وفقاً لبورصة الاستراتيجية الإيرانية ومصالح “ولاية الفقيه”؟
في الحقيقة، لم يتمّ بناء التفكير والقول ببلوغ سطوة “حزب اللّه” الذروة وبدء مشروعه بالانقباض، على خلفيّة تحكيم النيّات بالسياسة، ولا على التبصير بتعديل مرتقب لموازين القوى في غير مصلحة طهران، مع توسّع تطبيعات العلاقات العربية الإسرائيلية، وتشكيل تحالفات تزيد من عزلة “نظام الآيات”، أو عدم الرهان على ليونة وتراخٍ من الإدارة الأميركية الجديدة تجاه التمدّد الإيراني في العالم العربي.
مع كلّ هذه المعطيات الخارجية، وقبلها وبموازاتها، يستند التقدير إلى قراءة لبنانية داخلية، قد ترفدها التحوّلات في المنطقة والعالم بدفع إيجابي، لكنّها كافية في حدّ ذاتها لاستشراف التراجع المتدحرج في نفوذ “حزب اللّه”، وارتخاء قبضته عن عنق الدولة اللبنانية.
أبرز ما يمكن التوقف عنده من علامات التراجع، ما يأتي:
١ – لم يعد في إمكان “حزب اللّه” أن يجد شريكاً لبنانياً من الطوائف الأخرى، يوقّع معه “وثيقة تفاهم” راجحة ورابحة كتلك التي وقّعها مع “التيّار العوني” في شباط ٢٠٠٦، وفي لحظة سياسية لا يمكن أن تتكرر. حتّى أن هذه “الوثيقة” نفسها محكومة بالتفكك بفعل تلاطمها الداخلي، وبعد انكشاف هدفها المحوري العميق: حماية السلاح غير الشرعي، ولو حقّق العونيون بفضلها مكاسب زائلة في ثنائية السلطة والمال. وقد أدرك “حزب اللّه” أن الغطاء الذي أمّنه هذا “التفاهم” لسلاحه تقلّص بشكل دراماتيكي، شعبياً وسياسياً، وليس في الإمكان تعويم الفريق الغريق في الثلث الثالث من “عهده”.
وإلى ذلك، ليس في الأفق السياسي ما يمنح “حزب اللّه” حق التفرد بفرض رئيس للجمهورية كما فعل قبل ٤ سنوات.
٢ – لم يعُد في استطاعة “حزب اللّه” تكرار انقلاباته الثلاثة، في كانون ٢٠٠٧ وأيار ٢٠٠٨ وكانون ٢٠١١، ولا ما نتج عنها من “ثلث معطّل” يتحكّم بمصير الحكومة، وتكريس أعراف طارئة ومحاولة جعلها فوق الدستور. حتّى أن مسألة تكريس وزارة المال ل”ثنائيّته” غير مضمونة، أو قد تكون مجرد رشوة موضعية يحصل عليها بشقّ النفس، مقابل تنازلات في غير اتجاه، لدى تشكيل أي حكومة جديدة وما بعدها.
٣ – لم يعُد في الإمكان تكرار حكومة اللون الواحد، أو إعادة إنتاج حكومة حسّان دياب، برغم كل مسار التنازلات الموضوعة تحت شعار الانقاذ والتضحية. وما المحاولة الراهنة لإنعاش هذه الحكومة المستقيلة بحجّة عدم تشكيل بديلة، سوى تأكيد على أنها الأخيرة.
٤ – لقد انتهت معادلة “القائد والجنود” التي حكمت “قوى ٨ آذار” في مواجهة تنوّع وتعدّدية “قوى ١٤ آذار”، ولم يعُد “الحزب القائد” يأمر فيُطاع كما في السابق، ودخل “الجنود” في تنازع مع “القيادة” حول المصالح والمنافع والحصص.
ه – إن لجوء “حزب اللّه” إلى التفرّد بإجراءات مالية واقتصادية في بيئته، ليس دليل ثقة وقوة، بل اعتراف غير مباشر بفشل مشروعه السياسي العسكري الانصهاري تحت راية “المقاومة الإسلامية في لبنان”، وتأسيس (بعلمه أو بدون علمه) للفيدرالية المالية التي تتكامل مع الفيدرالية الأمنية والاجتماعية والتربوية والثقافية… ولاحقاً السياسية. وهذا يعني انكفاءه إلى داخل “غيتو” بيئته بدلاً من الانفلاش على البيئات الأخرى.
٦ – من مؤشرات الضعف الأخيرة، محاولات متكرّرة وغير ناجحة من “الشيعوية” لتمرير قانونين لمصلحتها، هما قانون انتخاب يغلّب العددية الطائفية قبل بلوغ الدولة المدنية العلمانية، وقانون العفو العام لدعم وإنعاش اقتصاد التهريب والجريمة المنظّمة.
إضافةً إلى تشجيعها “مبادرات” مجزوءة تتكتّم على جوهر مشكلة لبنان، أي ضغط السلاح غير الشرعي، وتُغفل ضمانات القرارات الدولية التي تحمي سيادة لبنان واستقلاله السياسي، وتحديداً القرارات ١٥٥٩، ١٦٨٠، ١٧٠١.
٧ – ليست الطريق معبّدة أمام “حزب اللّه” للسيطرة على القوى السياسية المعارضة، وقد باتت أذرعه داخل الطائفتين السنّية والدرزية تحت مسمّى “سرايا المقاومة” بحكم المجمّدة لأسباب كثيرة أهمّها طائفية ومالية، أمّا ذراعه الضاربة في البيئة المسيحية فتعاني من شبه شلل بفعل تراكم الفشل، وتدافع الانتكاسات، ووطأة العقوبات.
وقد استرجعت القوى المسيحية الحيّة قرارها السيادي، أحزاباً ومستقلّين وثوّاراً منتفضين، ورفدتهم الكنيسة المقاوِمة، برمزَيها البطريرك الراعي والمطران عودة، بمواقف رائدة وبصمود أخلاقي ووطني مشهود، وبطرحَين متقدّمَين:
تحرير الشرعية، والحياد الإيجابي الناشط.
لكلّ هذه الأسباب الداخلية، نعاين حالة ضمور “الشيعوية” خلافاً لكلّ المظاهر والظواهر.
لذلك، يجب أن نوقف اللطم والندب حول مصير لبنان الذي يلتهمه “حزب اللّه”! شرط أن تبقى الإرادات متحفّزة والعيون ساهرة، كي يتم استكمال اندحار التجربة الأخيرة لاحتلال لبنان بالتوقيع الإيراني.
… وهو هدف ليس بعيد المنال.