أثار البيان الثلاثي المشترك الأميركي- السعودي – الفرنسي – حول لبنان سلسلة من ردود الفعل والتعليقات التي بقيت في العموميات، ولم تلج صلب المضامين التي كُتبت بأحرف حاسمة حازمة ومعبّرة.
أهم ما تضمنه البيان بين سطوره الآتي :
أولاً : تخلّي فرنسا عن دورها التسووي مع إيران وحزب الله في لبنان استشعاراً من الرئيس إيمانويل ماكرون والأميركيين الديمقراطيين صعوبة لا بل استحالة أي تعويم خليجي- عربي وتحديداً سعودي للبنان، في ظل بقائه تحت الاحتلال الإيراني وبإدارة حزب الله، وفي الوقت عينه عدم استعداد طهران لتقديم تسهيلات في الوقت الحاضر في أحدى أبرز أوراقها الإقليمية أي لبنان قبل معرفة موقف واشنطن وأوروبا من الاتفاق النووي، ما أدى ويؤدي الى تشابك التعقيدات الممتدة من أوكرانيا الى المنطقة.من هنا يُدرك الجانبان الفرنسي والأميركي أن لا أحداً يمكنه إنقاذ لبنان مما هو فيه الا دول الخليج وبخاصة المملكة العربية السعودية، ومن هنا عاد الأميركي كما الفرنسي الى مشاطرة المملكة رؤيتها للملف اللبناني، واتفق الجانبان الأميركي والفرنسي مع الجانب السعودي على توحيد الاستراتيجية لخروج لبنان من مأزقه بالعودة الى اتفاق الطائف من جهة، والى القرارات الدولية ولا سيما القرارات ١٥٥٩ و١٧٠١ و١٨٦٠، وقيام مؤسسات دستورية تمضي قدماً في توطيد السياسات الإصلاحية المطلوبة واستعادة لبنان سيادته واستقلاله.
ثانياً : التأكيد على دور القوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الشرعية الحصري في حفظ استقرار لبنان وسيادته ترجمةً ديبلوماسيةً للموقف المبدئي برفض السلاح غير الشرعي أي سلاح إيران عبر حزب الله، وبالتالي التركيز على دور القوات المسلحة الشرعية معطوفاً على التأكيد على قرارات الشرعية الدولية تظهير ديبلوماسي لخطة الطريق المطلوب من لبنان انتهاجها للمرحلة المقبلة إن أراد الخروج من عزلته والسير على طريق الإنقاذ.
ثالثاً : التشديد على اتفاق الطائف يعني العودة الى تنفيذه في كل ما لم يُنفذ منه بعد، فاتفاق الطائف بإصلاحاته الإدارية ولا مركزيته الإدارية الموسّعة وإصلاحاته الاقتصادية مطلوب تنفيذه بكامله، وكذلك في الشق المتعلق باستعادة لبنان سيادته وسلطته بحل جميع الميليشيات والباقي منها حزب الله الذي لا غطاء دستورياً أو شرعياً لاستمرار وجوده، إذ أن اتفاق الطائف واضح في إناطة أمر الدفاع عن استقلال لبنان وسيادته للقوات المسلحة الشرعية، وبالتاليمهما أدرجت في البيانات الوزارية المتتالية إشارة الى حق المقاومة تبقى تلك المحاولات ما دون القيمة الدستورية وخارج سياق الطائف كلياً.
رابعاً : ضرورة إجراء انتخابات رئاسية في موعدها وكذلك تشكيل حكومة الإصلاحات، ما يشكل مصدري التزام وقلق في آن لدى الأطراف الثلاثة : فلا واشنطن ولا باريس ولا الرياض يريدون في هذه المرحلة فراغاً دستورياً يفاقم الوضع اللبناني ويضيف الى تعقيدات الوضع الإقليمي تعقيداً لبنانياً إضافياً.من هنا لا مجال أمام اللبنانيين الا بإجراء انتخابات لوصول رئيس سيادي لا يكون استنساخاً للعهد الحالي تحت أي شكل أو ظرف أو اعتبار.كذلك لا بد من حكومة تتولى تنفيذ برنامج إصلاحات صندوق النقد كي تستطيع المملكة والخليجون معها والدول المانحة والدول الصديقة للبنان فتح باب المساعدات والدعم المالي لإعادة إحياء اقتصاده عبر الإصلاحات البنيوية والهيكلية المطلوبة.
خامساً : في قراءة جيو سياسية لأهمية هذا البيان الثلاثي المشترك حول لبنان يتبيّن بأنه يتقاطع مع ٣ عوامل إقليمية مؤثرة : العامل الإيراني الذي يبدو حالياً في حال تأزم سواء داخلياً عبر الانتفاضات الداخلية الجارية وعدم الاستقرار الداخلي في إيران، أو إقليمياً ودولياً عبر التأزم في ملف الاتفاق النووي وتوقّف المحاولات لإحياء الاتفاق بعدما وضعت طهران شروطاً جديدةً على المسوّدة المفترضة “نهائية” التي كان وضعها الاتحاد الأوروبي.هذا الوضع يشنج الإيرانيين ويجعلهم متمسكين بأوراقهم ومكاسبهم وأذرعهم في المنطقة كما في لبنان، ما يزيد من منسوب التوترات السياسية والميدانية.العامل الروسي الضاغط على إيران التي تبدو غير مستعدة للذهاب بعيداً في دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا بأكثر من شراء مسيّرات أو عقد بعض الصفقات العسكرية والتعاون في مجال الطاقة.العامل السعودي الخليجي الذي يقوي رصيده وتأثيره على مجريات الوضع اللبناني والإقليمي لسحب الدول العربية المحتلة من قبل إيران من تحت عباءتها، خصوصاً وأن الخليج معني قبل سواه بالعمل على وقف الإمتداد والتأثير الايرانيين في غرب آسيا أي في منطقتنا.
أما إسرائيل فقلقها الأول يبقى إيران وامتلاكها السلاح النووي، علماً أن إسرائيل يناسبها “لبنان مضبوط” إقليمياً ودولياً في هذه المرحلة ولكن بشرط إضعاف حزب الله وضمان كفّ شره عن تل أبيب.
إنها مرحلة إعادة خلط الأوراق وإعادة الحسابات الاستراتيجية في المنطقة ورسم الأطر لتوضيب أطر حل لكل دولة في وضع صعب عبر آلياتها الدستورية الذاتية، لكن مع ذلك يبقى لبنان أضعف ساحة وأفضل متسع لترجمة الصراعات كما التسويات.