مع مرور الساعات الأولى لليوم الأول على الهجوم “التاريخي” على إسرائيل من غزة، كثُرت التساؤلات حول حقيقة ما جرى في بداية هذا الهجوم الفلسطيني غير المسبوق شكلاً ومضموناً منذ اندلاع الصراع الإسرائيلي- الغزاوي وجولاته الخمس السابقة.
قاسم سليماني وثوب العفة
في إستعادة أولية لمبرّرات هذا الهجوم من المنظار الجيو سياسي، من الواضح أن لا الجهاد الإسلامي ولا حركة حماس ولا أي تنظيم مسلّح فلسطيني في غزة بإمكانه المبادرة الى شنّ عملية توغّل وتسلّل بهذا الحجم داخل أراضي إسرائيل لولا موافقة واضحة من طهران التي ترعاهم وتساعدهم وتسلّحهم، ليس لوجه الله بل خدمةً لأجندتها في المنطقة، وقد سقط عن تلك المنظمات بدءاً من حماس “ثوب العفّة” الفلسطينية المقاوِمة منذ لحظة اعتبار قاسم سليماني شهيداً للقدس، رغم كل ما ارتكبته يداه من مجازر بحق الشعوب العربية في المنطقة، ولا سيما في سوريا والعراق، وبالتالي لم يكن بإمكان حماس أو غيرها القيام بعملية بحجم الهجوم على إسرائيل انطلاقاً من قطاع غزة لولا الغطاء الإيراني سياسياً وتسليحياً وتمويلاً .
تصعيد لعرقلة مساعي التطبيع
أما لماذا مبادرة إيران لهذا التصعيد فلأسباب عدة أبرزها :
- أولاً : عرقلة أو إسقاط مساعي التطبيع السعودي- الإسرائيلي التي كانت تقضّ مضاجع النظام الإيراني، ولم تكن طهران قادرة على ثني الرياض عن المضي في هذه المساعي نحو تحقيق الهدف، خصوصاً بعدما أعلنها ولي العهد السعودي في مقابلته التلفزيونية الأخيرة أن المفاوضات تقترب كل يوم بين الجانبًين الأميركي والإسرائيلي نحو تحقيق التطبيع .
- ثانياً : لأن إيران وبعد أن خسرت ورقة السيطرة على مخيمات فلسطينيي لبنان من بوابة عين الحلوة وإدراكها بأنها لم تعد تملك سوى غزة كأداة تأثير ومساومة على القضية الفلسطينية، أدركت ضرورة إعادة تأكيد قدرتها على الإمسّاك بغزة كورقة ضغط على طاولة المفاوضات والمساومات الإقليمية بحيث تستطيع من خلال تلك الورقة منع استمرار التطبيع وعدم السماح لأي طرف إقليمي ودولي بتجاوز مصالحها، وهي القادرة على عرقلة لا بل على خربطة أية مشاريع أو تسويات إقليمية لا تراعيها مثل التطبيع السعودي- الإسرائيلي.
ثورة السويداء تؤرق نظام الأسد
- ثالثاً : لأن نظام الملالي يدرك حجم الحصار الذي يعيشه منذ تعثّر الاتفاق النووي ورغم المساعي التي تقودها سلطنة عُمان مؤخراً لإعادة إطلاقها مع الأميركيين وإدراكه أيضاً حجم التهديد الذي يتعرض نفوذه اليه في سوريا، بعدما باتت ثورة السويداء والمناطق الداخلية للنظام والساحل والشمال الشرقي في سوريا كلها تؤرق نظام الأسد الموالي لإيران، فيما التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة شمال شرقي الفرات يهدّد جدّياً مصير النظام والوجود الإيراني على السواء، انطلاقاً من خطة الإطباق على معبر التنف – البوكمال، وهو المعبر الوحيد المتبقي للإيرانيين لمد قواتهم وميليشياتهم ونظام الأسد بالسلاح والعتاد والتمويل، وقد حاولوا لعرقلة الخطة وإسقاطها الإيقاع بين قَسدَ والعشائر العربية في دير الزور، لكنهم فشلوا رغم حصول صدامات مسلحة لأيام ممتدة بين الطرفين، ما كاد يُنذر بانفراط عقد التحالف الدولي، كما حاولوا بالتوازي إشعال جبهات الشمال السوري بحجة مكافحة الإرهابيين والمنظمات الإرهابية لإسكات أصوات المعارضة الداخلية للأسد المطالِبة بالاقتصاد والمعيشة وإنهاء حكمه، حتى من ضمن بيئته العلوية الحاضنة بحجة مختلَقة وهي أن لا صوت يعلو فوق صوت محاربة الإرهاب والإرهابيين.
مزاعم فاشلة وأهداف مشبوهة
مع فشل تلك المحاولات، نفذت طهران الهجوم على كلية حمص الحربية في أثناء تخريج دفعة من التلامذة الضباط العلويين لإلصاق التهمة بالمعارضة للنظام وشدّ عصب العلويين على قاعدة إحياء الزعم الكاذب بأن تلك الطائفة لا تزال مستهدفَة من الإرهابيين، تلك الكذبة التي نفتها نفياً صارخاً ثورة دروز السويداء وعلويي الساحل وأهالي دمشق وريفها وحلب وحماه والشمال وسواها من المناطق ذات طوائف ومذاهب مختلفة لإثبات التلاحم والوحدة السورية في مواجهة نظام أفقرَ السوريين وجوّعهم ويكاد يقضي عليهم من دون خجل ولا وجل،
إلا أن نتائج الهجوم على الكلية الحربية فشلت في تحقيق أهدافها المشبوهة، فلجأت طهران الى الورقة الفلسطينية التي تتحكّم بها خصوصاً وأنه طوال أشهر وأشهر سابقة، تمكّنت طهران من تدريب الفصائل الفلسطينية في غزة وتسليحها استعداداً ليوم الحاجة، والتي حانت بتوقيت مشبوه أيضاً تزامنَ مع اشتعال جبهات الشمال السوري .
إيران مهّدت للهجوم على إسرائيل
هجوم غزة على إسرائيل إذاً مُهّدَ له إيرانياً لتحقيق أهداف جيو سياسية واضحة ليس أقلها شدّ العصب الفلسطيني وتجييشه ضد التطبيع الإسرائيلي- السعودي لاسيما وأن الرياض كانت قد حققت إنجازاً فلسطينياً كبيراً تمثّل بإشراكها القيادة الفلسطينية في لقاءات الرياض مع الأميركيين لتسليك التطبيع وإعطاء الفلسطينيين ضمانات حول حقوقهم بالتزامن مع تعيين سفير سعودي غير مقيم في فلسطين كخطوة متقدّمة باتجاه التطبيع.
الضغوط المتزايدة على نتانياهو
إسرائيلياً ومع حماسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو المعلَنة للتطبيع مع الرياض، برزت أمامه عراقيل مثل عداء كان يعمل على مواجهتها ومعالجتها مع الأميركي خصوصاً في ظل ضغط متزايد من واشنطن عليه يطالبه بالقبول بحل الدولتين انفاذاً لشرط المملكة العربية السعودية للاستمرار في مفاوضات ومساعي التطبيع، في وقت يتعرّض نتانياهو على المقلب الآخر لضغوط اليمين المتطرّف، الركن الآخر لحكومته لعدم التطبيع وعدم الاعتراف للفلسطينيين بحل الدولتين، وقد بلغ حشر نتانياهو حدّاً لم يعد بإمكانه معه الا الرضوخ للمطلب اليميني المتطرّف، والذي ضاعفت ضغطه عليه ثورة المعارضة ضد برامج الإصلاح القضائي الذي كان قد وعدَ اليمين المتطرّف بتشريعها مقابل الدخول في التشكيلة الحالية.
الاستخبارات الإسرائيلية كانت على علم…
جاءت أحداث 6/10 لتفتح آفاقاً جديدة قد لا تكون أحداثها بالبساطة والمباغتة التي يدّعيها الجانبان الإسرائيلي والفلسطيني، إذ مَن يراقب كيفية اندلاع الأحداث منذ يوم السبت الفائت لا يمكنه إلا أن يلاحظ بريَبة وتعجّب توفّر عوامل تدعو للتفكير في مجرى تلك الأحداث، بدءاً من
المنهجية التي اعتُمدت من قِبًل الفصائل الفلسطينية في التوغّل داخل مناطق الحزام الغزاوي والمستوطنات الإسرائيلية من دون أي مقاومة تُذكر، وهي مناطق غالباً ما تكون ذات رقابة مشدّدة لوقوعها على حدود القطاع، وبسحر ساحر والدخول بسهولة الى مناطق المستوطنات المحيطة بغزة من دون مقاومة بحجة المباغتة تُطرح علامات استفهام،
كذلك غياب المعلومات الإستخبارية وإلصاق الغياب بالتقصير من قبل أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية المصنّفة عالمياً من بين أقوى أجهزة إستخبارات العالم، لحفظ ماء وجه وهيبة دولة إسرائيل والحديث عن المحاسبة الآتية بعد الحرب تثير علامات استفهام كثيرة لاسيما وأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت على علم بالتحضيرات والاستعدادات، وثمة معلومات تفيد بأنها رفعت في وقت سابق لرئيس الوزراء نتانياهو تقارير حول الوضع في غزة أبقاها الأخير في الدرج من دون متابعتها.
كذلك كان لافتاً في التوقيت للعملية وجود رئيس حركة حماس إسماعيل هنية ورئيس المكتب السياسي خالد مشعل خارج غزة، الأول في الضاحية الجنوبية في بيروت بضيافة أمين عام حزب الله حسن نصرالله، والثاني في بلد إقليمي للإيهام بأن لا علم لهما بمخططات غزة العسكرية وساعة تنفيذها، الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول الوضع داخل حماس بين القيادة السياسية والقيادات الأمنية والعسكرية.
تضخيم إعلامي طلباً للاستعطاف الدولي
واللافت أيضاً كان ولا يزال التضخيم الإعلامي الإسرائيلي لإظهار إسرائيل والإسرائيليين مضطَهَدين ومُعتدى عليهم جلباً للاستعطاف الدولي والدعم لتغطية أعمال إسرائيل في غزة، والتركيز على الصعوبات التي تواجهها مع جيشها في استعادة السيطرة على مناطق توغّل الفلسطينين فيها حتى الآن، والتركيز على الضحايا والأسرى الإسرائيليين في الإعلام العبري والعالمي على أساس الاعتداء على أمن إسرائيل القومي وشعبها .
صور منقّحة للبطولة
والسؤال الذي يطرح نفسه حول غياب القبة الحديدية ومنظومة بطاريات صواريخ الباتريوت طوال الساعات ال ٤٨ الأولى من بدء الهجوم رغم الأعداد الهائلة للصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه الداخل الإسرائيلي بالتزامن مع التوغل وعدم تشغيلها إلا بعد إعلان الحكومة الإسرائيلية رسمياً حالة الحرب في اليوم التالي،
فضلاً عن ذلك إظهار قادة حماس والجهاد على أنهم أبطال المقاومة بنظر الرأي العام العربي والإسلامي، مع العلم بحساسية التأييد العربي والخليجي لهاتين الحركتين كونهما لا تحظيان برضى الدول الخليجية باعتبارها موالية لإيران وموضع شكوك في كونهما ينفذان مصلحة فلسطينية بحتة، في مقابل تطهير صورة منقّحة لبنيامين نتانياهو لدى الغرب والشعب الإسرائيلي على أنه البطل القومي المنقذ لإسرائيل و من الواجب الالتفاف حوله وحول حكومته في تلك اللحظة المصيرية، ومرافقة كل ذلك بشبه صمت عربي وخليجي تحديداً إزاء ما يحصل، واقتصار المواقف على بيانات عامة تذكّر بحل الدولتين ووقف إطلاق النار .
أميركا لم تعطِ بعد الضوء الأخضر للعملية البرّية
في تقديرنا أن الأحداث الجارية تكاد تكون، رغم قساوتها وخطورتها على الأمن الإقليمي، لصالح الأفرقاء المتنازعين بمردودها السياسي، فنتانياهو يعطي اليمين المتطرّف ما يريده في غزة ويستخدم الهجوم الإرهابي على إسرائيل لاستبعاد حل الدولتين الذي تطالبه به واشنطن والرياض، بحجة استحالة وجود دولة لإرهابيين يريدون قتل اليهود وإبادتهم بالتوازي مع إخراج إيران من غزة أو أقله ضرب أجنحتها المسلّحة وإضعافها وإضعاف نفوذها الى أقصى الحدود، خصوصاً اذا ما تقرّرت العملية البرّية الى داخل القطاع، ما يتطلّب موافقة أميركية لم تعطَ بعد، وتدور المفاوضات عليها بين تل أبيب وواشنطن، ما لم يتورط حزب الله في الحرب حيث عندها يكون الضوء الأخضر الأميركي من باب تحصيل الحاصل،
وما تحرّك الأسطول الهجومي الأميركي نحو سواحل إسرائيل، فضلاً عن كونه للدعم والمساعدة إلا إشارة استعداد للتدخّل في حال توسّع النزاع شمال إسرائيل .
المنطقة على حافة حرب شاملة شرقاً وشمالاً
الدخول العسكري البرّي الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر الأميركي في وقت يدكّ الجيش الإسرائيلي غزة تمهيداً للهجوم البرّي، الأمر الذي يضع المنطقة على حافة حرب شاملة شمالاً وشرقاً في آن.
ما حصل ويحصل في إسرائيل أفاد نتانياهو وإيران والمنظمات الفلسطينية في غزة، وأضرّ بشكل كبير بالدول العربية وبخاصة الخليجية …
وللحديث تتمة …