كتبت ناديا غصوب في جريدة "نداء الوطن":
لم يعد السؤال عن موقع "حزب الله" في لبنان والمنطقة مجرّد جدل سياسي، بل أصبح جزءًا من معاناة يومية يعيشها اللبنانيون، بمن فيهم بيئة "الحزب" نفسها. فـ"الحزب" الذي اعتاد أن يتكئ على شبكة واسعة من التحالفات والغطاء الإقليمي والدولي، يجد نفسه اليوم في مرحلة مختلفة، أشبه بامتحان عسير أمام عزلة متزايدة.
في القرى والبلدات التي تشكّل الحاضنة الأساسية لـ "الحزب، لم تعد صورة المقاومة وحدها تكفي. الناس باتوا غارقين في أزمات الخبز والدواء والكهرباء، فيما يشعر كثيرون أن الخطاب العسكري والسياسي لا يعالج معاناتهم اليومية. حتى داخل بيئته، هناك تعب واضح وصوت خافت يعبّر عن ضيق العيش قبل أي شيء آخر.
سياسيًا، شكّل التفاهم بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" عام 2006 نقطة مفصلية عزّزت حضوره في الداخل. لكن هذا التحالف استُنزف مع مرور السنوات، وانتهى فعليًا مع نهاية عهد الرئيس ميشال عون. التيار العوني، بقيادة جبران باسيل، استفاد طويلًا من قوة "الحزب"، لكنه في النهاية تركه وحيدًا في مواجهة الاستحقاقات. حتى حركة "أمل"، الحليف التقليدي، تتريّث في السير خلف كل خطاب سياسي جديد قد يثير هواجس الحرب الأهلية. الرئيس نبيه بري كان واضحًا في أكثر من مناسبة برفضه الانزلاق نحو أي حديث عن "حرب أهلية جديدة"، مؤكدًا أن اللبنانيين دفعوا ثمنًا باهظًا في الماضي، ولا مصلحة لأحد في إعادة فتح جراحٍ لم تلتئم. هذا الموقف يعكس حرص بري على إبقاء التحالف مع "الحزب" في إطار سياسي – برلماني، من دون الانخراط في مغامرات داخلية قد تعيد البلد إلى سيناريوات قاتمة.
وفي السياق نفسه، جاءت زيارة الموفدَين الأميركيين توم برّاك ومورغان أورتاغوس إلى بيروت لتضيف بُعدًا جديدًا. برّاك شدّد من قصر بعبدا على أن "القرار بشأن نزع سلاح "حزب الله" هو قرار لبناني سيادي"، مؤكدًا أن الولايات المتحدة ليست في وارد فرض إملاءات، بل تسعى إلى تثبيت الاستقرار الإقليمي. الزيارة أعادت التأكيد على دعم واشنطن لخارطة الطريق الخاصة باحتكار الدولة للسلاح، ووجّهت رسالة واضحة بأن "لا أحد في لبنان يريد حربًا أهلية جديدة". كما نقل برّاك أن "الكرة الآن في ملعب إسرائيل للالتزام بالانسحابات"، ما يفتح الباب أمام مرحلة قد تعيد صياغة قواعد اللعبة في الداخل اللبناني، مع ما يحمله ذلك من ضغوط إضافية على "الحزب".
وفي موازاة ذلك، جاءت قضية التجديد لقوات "اليونيفل" في الجنوب لتضيف عامل ضغط جديدًا على "الحزب". فبينما يتمسّك لبنان بالتجديد من دون أي تعديل يحدّ من التنسيق القائم بين القوات الدولية والجيش اللبناني، تدفع الولايات المتحدة وإسرائيل باتجاه منح "اليونيفل" صلاحيات أوسع وإعادة تقييم مهمتها، الأمر الذي يُنظر إليه في بيئة "الحزب" كاستهداف مباشر لدوره. فرنسا، من جهتها، قادت حملة لتمديد الولاية كما هي، في محاولة للحفاظ على الاستقرار ومنع انفجار الجنوب. هذا السجال الدولي وضع "حزب الله" في موقع من يرى نفسه محاصرًا، حتى في الملفات الأممية، ومضطرًا لمواجهة عزلة دبلوماسية إضافية تتقاطع مع الضغوط السياسية والاقتصادية عليه.
إقليميًا، ما زال "الحزب" يستند إلى إيران، لكنها اليوم ليست كما الأمس. العقوبات والضغوط التي تواجهها طهران تجعل قدرتها على توفير الغطاء الكامل أضعف. وتبدّلت موازين الحرب في سوريا بشكل عميق، على أثر سقوط نظام الأسد ما انعكس مباشرة على "حزب الله" الذي فقد الكثير من هامش قوته. فدخول روسيا وتركيا على خط التفاهمات جعل نفوذه الميداني أقل تأثيرًا مما كان عليه في بدايات الصراع، فيما كبّدته سنوات القتال خسائر بشرية ومالية أثقلت بيئته الداخلية وأضعفت صورته أمام جمهوره. وإلى جانب ذلك، تغيّرت مكانته السياسية، إذ انتقل من صورة "المقاومة" التي كانت تحظى بتأييد واسع، إلى صورة "الميليشيا" المنخرطة في نزاعات إقليمية، وهو ما قلّص من شرعيته وأظهر حجم تأثره بتغيّر الأوضاع في سوريا. عربيًا، معظم الدول تعيد صياغة تحالفاتها وانفتاحها في المنطقة، بينما بقي لبنان، ومعه "حزب الله"، خارج هذه المعادلات.
أما على المستوى الدولي، فالعزلة تزداد قسوة. الولايات المتحدة وأوروبا وسّعتا عقوباتهما، ما جفّف منابع التمويل وحاصر التحركات السياسية. "الحزب"، الذي كان يجد أحيانًا غطاءً دبلوماسيًا في بعض العواصم، يُنظر إليه اليوم باعتباره عامل تهديد للاستقرار الإقليمي.
كل هذه التطورات تجعل "الحزب" في مواجهة مرحلة غير مألوفة: لم يُترك وحيدًا تمامًا، فما زال يمتلك قاعدة شعبية ورعاية إيرانية، لكن شبكة الحماية التي كانت تُضاعف قوته تراجعت كثيرًا. داخليًا الانقسام يزداد، إقليميًا تقلّصت الهوامش، ودوليًا يشتد الضغط.
"حزب الله" يجد نفسه اليوم أمام واقع لم يعتده: عزلة متزايدة تضيق خياراته على المستويات كافة. لم يُترك وحيدًا تمامًا، لكنه يواجه امتحانًا عسيرًا في زمن عزلة وضيق، والسؤال: هل يستطيع إعادة إنتاج نفسه أم أن مرحلة جديدة بدأت تُرسم لمساره السياسي والعسكري؟