ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الشكر لله على إعلان قداسة الأخوة المسابكيين الموارنة في بازيليك سيدة لبنان – حريصا، عاونه فيه المطارنة أعضاء سينودس الكنيسة المارونية، ومشاركة بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك يوسف الاول عبسي، بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، السفير البابوي المونسينيور باولو بورجيا، وعدد من المطارنة ممثلي البطاركة الكاثوليك والاورثوذكس، والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والراهبات، في حضور الوزراء زياد المكاري وهنري خوري وجورج بوشيكيان وجورج كلاس، ونواب من مختلف الكتل النيابية، ممثل عن قائد الجيش وممثلين عن قادة الاجهزة الأمنية، وحشد من الفعاليات والمؤمنين من مختلف المناطق اللبنانية.
بعد الإنجيل ألقى الراعي عظة بعنوان “كان زكريّا وأليصابات بارّين أمام الله” (لو 1: 6) قال فيها: “تبدأ في هذا الأحد السنة الطقسيّة الجديدة، بزمن ميلاد إبن الله إنسانًا. فالبشارة بمولد يوحنّا المعمدان هي خاتمة العهد القديم، وبداية العهد الجديد. يوحنّا هو بمثابة الفجر الذي يسبق طلوع الشمس، يسوع المسيح. وهو إبن والدين تقيّين “بارّين أمام الله، وسالكين في وصايا الله ورسومه بدون لوم” (لو 1:6). وفي هذا الأحد نحتفل هنا في بازيليك سيّدة لبنان بقدّاس الشكر لله على القدّيسين الإخوة المسابكيّين الثلاثة الذين استشهدوا في سبيل إيمانهم المسيحيّ في دمشق في ليل 9-10 تمّوز 1860 مع ثمانية من الآباء الفرنسيسكان، ونقدّمها ذبيحة الشكر لقداسة البابا فرنسيس على إدراج أسمائهم في سجلّ القدّيسين الأحد 20 تشرين الأوّل المنصرم. ونقدّمها ذبيحة شكر للقدّيسين الثلاثة على النعم التي يغدقها الله بشفاعتهم على المؤمنين والمؤمنات منذ استشهادهم”.
وأضاف: “في أحد بشارة زكريّا تتجلّى قداسة العائلة من خلال حياة زكريّا وأليصابات “البارّين أمام الله، السائرين في وصاياه ورسومه بدون لوم” (لو 1:6). ونستطيع القول إنّ يوحنّا تربّى من مثل والديه على القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة. فالعائلة هي المدرسة الطبيعيّة الأولى، والكنيسة البيتيّة التي يتربّى فيها الإنسان على الإيمان والصلاة وتقوى الله. فالقدّيسة تريز الطفل يسوع كانت تقول: “إنّها تعلّمت القداسة من والديها”. وفي الواقع أعلنتهما الكنيسة طوباويّين. والقدّيس شربل هو إبن بيت صلاة، إذ كانت العائلة تلتقي كلّ مساء لصلاة مسبحة العذراء وزياحها. ذلك أنّ الزواج تأسيس إلهيّ، وقد رفعه المسيح الربّ إلى رتبة سرّ وجعله واحدًا من الأسرار السبعة، ووضع له الله رسومًا ووصايا، وكتب له شريعةً في طبيعة الإنسان، رجلًا وأنثى”.
وتابع: “القدّيسون المسابكيّون الإخوة الثلاثة لم يصيروا قدّيسين ساعة استشهادهم فقط، بل كانوا متّصفين بالقداسة طيلة حياتهم. فقد نشأوا في عائلة مقدّسة من آل مسابكي، وتربّوا على الصلاة والفضائل والأخلاقيّة الرفيعة، وعلى مخافة الله والتقوى. فاستحقّوا أن يسفكوا دماءهم على مذبح حبّهم للدين المسيحيّ، وينالوا نعمة الإستشهاد الرفيعة. فالقدّيس فرنسيس كان لطيف المعشر وطيّب الأخلاق، وذا اتّكال عظيم على الله، تعاطى تجارة الحرير فاكتسب ثروة واسعة بفضل جدّه ونشاطه واستقامته وحسن إدارته وتدبيره. وقد اعتمدته البطريركيّة وسواها من العائلات اللبنانيّة المعروفة في بيع حرير مواسمهم. وامتدّت تجارته إلى ساحل سوريا. وقد عُرف بسخائه وإغاثته الفقراء والمحتاجين. وكانت دارته الكبيرة والواسعة مضافة للغرباء. تزوّج من السيّدة إليصابات شيحا من طائفة اللاتين وكان له منها ثمانية بنين: ثلاثة ذكور وخمس إناث. فأكسبهم تربية صالحة بمثل حياته. يبكّر كلّ صباح إلى مناجاة ربّه بالصلاة مقدّمًا نهاره وأعماله لله، ثمّ يذهب إلى الكنيسة فيحضر الذبيحة الإلهيّة. وفي كلّ مساء كان يجتمع مع عائلته وعائلة أخيه عبد المعطي وأخيه رفائيل فيشكرون الله على نعمه، ويتلون جهارًا صلاة المسبحة، وفصلًا من كتاب روحيّ، ويمارسون رياضات شهر أيّار وشهر آذار. وكان حافظًا وصايا الله والكنيسة وكلّ ما يجب من صيام، وانقطاع عن الزفر، ويسهر على حفظ الرسوم الدينيّة بكلّ حرص. أمّا تعبّده للسيّدة العذراء فكان عزاء قلبه. وكان مرجعيّة مع بني قومه يرجعون إليه في المهمّات الصعبة. وكان ذا رأي سديد وحكمة واسعة”.
وقال: “القدّيس عبد المعطي صرف حياته في التعليم والتربية في مدرسة الرهبان الفرنسيسكان، منقطعًا عن الدنيا، منصرفًا إلى مهنته والعناية بتهذيب أخلاق تلامذته. يصرف في الدير نهاره كلّه، ولا يغادره إلّا مساءً للإجتماع بعائلته. في تعليمه كان كثير الإهتمام بمبادئ الدين المسيحيّ وتحريض التلامذة على عبادة الله وتجنّب الخطيئة. وكان يكلّمهم عن نعمة الإستشهاد ناقلًا عنه أحدهم قوله: إنّ أعظم سعادة للإنسان، وأفضل حظٍّ له وأجلّ نعمة يبتغيها هي نعمة الإستشهاد”. في صباح كلّ يوم كان يذهب باكرًا إلى كنيسة الفرنسيسكان في دمشق مع إحدى بناته، حتى في أيّام الشتاء الباردة، ويحضر جميع ما يقام فيها من قدّاسات جاثيًا على ركبتيه. كان متزوّجًا وله خمسة أولاد، ذكران وثلاث بنات، ويعيشون جميعًا مع شقيقه فرنسيس في دارته الواسعة. كانوا كلّهم متمسّكين بالتقوى والإلفة والمحبّة”.
واستطرد: “أمّا القدّيس رفائيل صغير إخوته، فكان بتولًا حياته كلّها. كان مثابرًا على الصلاة والعبادة. كان يعيش مع شقيقيه فرنسيس وعبد المعطي، فقيرًا زاهدًا بحطام الدنيا متعبّدًا للعذراء، يقضي نهاره في دير الآباء الفرنسيسكان يساعدهم في كلّ شيء. كان غنيًّا بالله. في ليل 9-10 تمّوز كان استشهادهم مع الآباء الفرنسيسكان حيث داهمهم المعتدون، وكانوا قد التجأوا إلى الدير، بعد أن اشتدّ الحريق في حارة النصارى. قبل منتصف الليل، دخلوا الكنيسة مع الآباء الفرنسيسكان، وتلوا طلبة جميع القدّيسين، واعترفوا بخطاياهم، وطلبوا شفاعة العذراء، وزيّحوا القربان المقدّس، وتناولوا جسد الربّ، زاد المسافرين وسلاح المجاهدين. وعند الساعة الأولى بعد منتصف الليل دخل الأعداء الدير، بأيديهم عصيّ وبلطات وخناجر ومشاعل، وطالبوهم بإنكار دينهم المسيحيّ واعتناق الدين الإسلاميّ. فكان جواب الإخوة المسابكيّين: ليس لنا سوى نفس واحدة، فلسنا نهلكها بجحد إيماننا، نحن مسيحيّيون ونريد أن نحيا ونموت مسيحيّين. فهجم عليهم المضطهدون بسلاحهم وبادروهم بالضربات القاتلة. فقدّموا أنفسهم الزكيّة حفاظًا على إيمانهم. وفي 10 تشرين الأوّل 1926 أعلنهم طوباويّين البابا بيوس الحادي عشر، وفي 20 تشرين الثاني الماضي أدرج البابا فرنسيس أسماءهم في سجلّ القدّيسين. فتعيّد لهم الكنيسة الجامعة في 10 تمّوز من كلّ سنة”.
وتابع: “بشفاعتهم وشفاعة قدّيسيّ لبنان، من القدّيس شربل حتى الطوباويّ البطريرك اسطفان الدويهي، نلتمس من الله خلاص لبنان من ويلات الحرب الدائرة فيه، وما تخلّف من قتلى وجرحى ودمار منازل ومؤسّسات وتهجير شعب آمن، حتى بلغ عددهم مليون ونصف المليون. ونلتمس من الله تحريك ضمائر المتسببين بعدم انتخاب رئيس للجمهوريّة منذ سنتين كاملتين، والذهاب إلى المجلس النيابيّ وتحمّل المسؤوليّة الوطنيّة المشرّفة بانتخاب الرئيس. فلا أحد يستطيع أن يحلّ محلّه، والمؤسّسات لا سيما الدستوريّة، وعلى الأخصّ المجلس النيابيّ ومجلس الوزراء، فاقدة صلاحيّاتها في هذا الظرف الدقيق”.
وختم: “نوجّه الشكر إلى كلّ الذين يخدمون النازحين بشتّى الطرق، لكي يعوّضوا عليهم بالقليل من الكثير الذي فقدوه، سائلين الله الآب السماويّ، العناية بهم وإرسال فاعلي الخير إليهم”.
في ختام القداس، كانت للمطران غي بولس نجيم كلمة شكر، ليقدم بعدها المطران سمير نصار للبطريرك الراعي ذخائر القديسين الاخوة المسابكيين .