أصدر جوزيف غوبلز وزير دعاية هتلر أمراً، يلزم الألمان بفتح نوافذ المساكن ورفع أصوات المذياع حتى أقصى درجاته، لكي تستطيع الأفكار التي يبثها عن طريق الاذاعة، الوصول إلى أذن كل ألماني رغَب أم كره. ظن الكثيرون يومها أن هذا ليس أكثر من “ازعاج” لكن الكاتب “التقدمي’ الألماني “سيرجي تشاخوتين” كان له رأي آخر؛ فعكف على متابعة ورصد ودراسة التجربة المثيرة، واكتشف “كيف أفلح غوبلز في إعادة صياغة أمة كثيفة العدد، عريقة التاريخ، متقدمة في العلم والحضارة، على ما يريد الحزب النازي لتندفع بارادتها كتلة واحدة، خلف جنون هتلر نحو حرب انتهت بهزيمة كارثية، وانتحار هتلر ثم انتحار المسؤول عن جنون الأمة غوبلز، بعد أن قتل أطفاله الخمسة وانتحرت زوجته بالسم.
ما ذُكر ما هو الا تطبيقاً وفيّاً ومخلصاً، لما ورد في كتاب كفاحي الذي كتبه الزعيم هتلر في سجنه بين عام 1924 و1925 عن “السيطرة على العقول”، بهدف النجاح، عن طريق السيطرة على الإعلام”…يختصر المؤرخ البريطاني روبرت أنسور الذي عايش فترة النازية، استخدام هتلر للبروباغندا بالقول: “هتلر لا يضع حدوداً على كيفية استخدام البروباغندا. فهو مقتنع بأن الناس يصدقون أي شيء إذا تم تكراره لهم وبشكل قاطع”.
مخطىء من يعتقد بأن اسلوب ومضمون المدرسة الدعائية “الهتلرية الغوبلزية” قد زالت، او أقله اضمحلت او حتى ضعفت، بل على العكس فعلى الرغم ما طرأ على الإعلام، من تطور مذهل في الثورة المعلوماتية والفضائيات العالمية على مدار الساعة، والتي لا يمكن بوجودها إخفاء الحقائق، ما زلنا للأسف واقعين تحت سيطرة “النيو نازية” “الغوبلزية” في السياسة والاعلام، وفي انسياق الجماهير في العالمين الغربي والعربي على وجه الخصوص، حيث استنسخ الخلف في القرنين الأخيرين، تعاليم السلف في القرن التاسع عشر، في الدعاية والاعلام والممارسة السياسية، وحتى نافس وبزّ مؤسسي تلك المدرسة في تطبيقاته بأشواط…
الكثير منا قرأ او يتذكر كيف أعلن المذيع، من صوت العرب من القاهرة أحمد سعيد، عن انتصار الجيش المصري في حرب 1967. وكيف نقل عبر الإذاعة بيانات عسكرية منسوبة لمصادر عسكرية في الجيش المصري، تخبر عن انتصار ساحق لمصر، وعن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية. وذلك بناء على البيانات الصادرة من الجيش والقيادة السياسية. في الوقت الذي شهدت فيه جميع الجبهات، هزيمة للجيش المصري من قبل الجيش الإسرائيلي. وقصف للطائرات المصرية، وهي على الأرض وقبل أن تقلع من المدارج.
طبعا لم ينس الكثيرون منا وزير الاعلام العراقي، في عهد الرئيس صدام حسين محمد سعيد الصحاف، واطلالاته المُبَشّرة بانتصارات مُبينة على الجيش الاميركي الغاصب، وعلى جنوده “العلوج”، وابرزها اطلالته قبل دقائق من دخول الأميركيين الى وسط العاصمة بغداد.
لم يخرج الاعلام في الحرب الدائرة، في كل من لبنان وفلسطين المحتلة عن استنساخ تجربة “أحمد سعيد و الصحاف”، في مقاربته لتطورات المعارك الدائرة منذ 7 تشرين الأول 2023، والتي بحسب الدعاية والسردية الطاغية على قاب قوسين، من هزيمة العدو الاسرائيلي بحرا برا وجوا وارضا وشعبا وجيشا وسياسة واقتصادا ، لنشاهد ونشهد على واقع صادم حقيقي ومرير، في النتائج الأولية لتلك المعارك، حتى قبل ان تضع الحرب أوزارها، من مصائب وكوارث وخسائر هائلة على غزة واهلها وجنوب لبنان واهله.
وفي الخلاصة اللوم يقع على “المتلاعَب” بهم من الجماهير وما أكثرهم، اذ نراهم يركضون دائما وراء كل من يحرك عواطفهم، ويدغدغ مشاعرهم، ويسيرون نحو الهاوية وهم نيام. ولا يكتشفون الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، وعندها يصابون بالصدمة المذهلة على ما ذكرنا…
وذلك بدل ان يلتزموا بالعقل والحكمة والمنطق، والبحث والتنقيب من أجل معرفة الحقيقة، والتصرف وفق ما يمليه الواقع ومصالحهم.