بعض التواريخ تشكّل محطات مفصلية في تاريخ الجماعات والدول، لذا ثمة من يسعى لإستحضارها في محطات أخرى لتكريس نهجها أو وهجِها. هذا هو حال انتفاضة 6 شباط ١٩٨٤ التي شكلت تتويجاً لإنطلاقة الشيعية السياسية في لبنان والتي تتجسّد اليوم في الثنائي "حزب الله" و"أمل".
نجح الامام موسى الصدر منذ ستينات القرن العشرين بتأطير الطائفة وتوحيد كلمتها لتصبح مسموعة ضمن النسيج المجتمعي اللبناني وتوّج ذلك بخلق "شيعية دينية" ذات هوية واضحة المعالم والاطر عام 1969 عبر إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
عام 1974، أسس الامام الصدر حركة المحرومين ذات الشعارات الوطنية والانسانية والبنية الشعبية الشيعية كسائر الطوائف التي إرتكزت الى أحزاب بغض النظر عن شعاراتها التي قد تتراوح من العروبة والناصرية مروراً بالاشتراكية وصولاً الى القومية اللبنانية، إلا إنها بسوادها الجماهري الاعظم من لون مذهبي واحد مع بعض الوجوه من مذاهب أخرى للتنويع الشكلي.
حين داهمت اللبنانيين الحرب عام 1975، كان سبقها بدء تأطير الطائفة الشيعية عسكرياً عبر تأسيس ميليشيا "أفواج المقاومة اللبنانية" التي اختصرت بأحرفها الاولى فكانت كلمة "أمل". إضطر الامام الصدر للكشف عن نشأتها في مؤتمر صحافي في 6/7/1975 على وقع إنكشاف أمرها إثر انفجار لغم أرضي في معسكر تدريبي في إحدى قرى بعلبك تسبب بسقوط عشرات القتلى وجميعهم من الطائفة الشيعية. فرغم انه قيل أن تأسيس "أمل" لهدف وطني وهو محاربة إسرائيل، لكنّ نقاءها المذهبي أسقط بالضربة القاضية مصداقية هذا الكلام.
غاب الامام الصدر منذ وصوله إلى ليبيا في 25/8/1978 لكن "أمل" لم تغب. إنخرطت أكثر فأكثر بالحرب اللبنانية وبالصبغة الطائفية وعمدت الى إسترداد عدد كبير من الكوادر الشيعية التي كانت موزعة بشكل كبير بين الأحزاب اليسارية والقومية و"البعث" بجناحيه وبين المنظمات الفلسطينية، أكان ذلك بالترغيب أو الترهيب. لاحقاً، شاركها "حزب الله" هذه المهمة منذ ولادته في بعلبك على يد "الحرس الثوري الايراني".
"الشيعية العسكرية" التي تكرّست تدريجياً في الحرب، نجحت عبر إنتفاضة 6 شباط 1984 التي نفّذها رئيس حركة "أمل" نبيه بري بتكريس ولادة "الشيعيّة السياسية" وذلك بغض النظر عن إختلاف اللبنانيين حول النظرة الى هذه الانتفاضة. فثمة من إعتبرها ضربة قاضية لإتفاق "17 أيار" وثمة من رأى أنها ضربة لما تبقى يومها من مفهوم شرعية الدولة ولمؤسستها العسكرية حيث أُخرج "الجيش اللبناني" من بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية وتلقى عهد الرئيس أمين الجميل ضربة قاسية.
عام 2006، إختار "حزب الله" تاريخ 6 شباط برمزيته ودلالاته لتوقيع "وثيقة تفاهم مار مخايل" مع الجنرال ميشال عون وتياره لإدراكه بالتداعيات الايجابية لهذه الوثيقة على "الشيعية السياسية" التي كانت محرجة يومها أمام صعود حركة "14 آذار" العابرة للطوائف وأمام أصابع الاتهام التي تشير الى تورطها بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. فكانت مفاعيل 6 شباط 2006 لا تقّل شأناً عن 6 شباط 1984 من حيث تكريس سطوة "الشيعية السياسية" على حساب مفهوم الدولة والعمل المؤسساتي وإحترام الدستور والقوانين.
وفي العام 2023، ها هم اللبنانيون مع 6 شباط من نوع آخر - وإختيار التاريخ من باب الصدفة هذه المرة – حيث حدّد موعد الاجتماع الدولي العربي المقرّر في باريس بمشاركة فرنسا واميركا والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر وعلى مستوى دبلوماسي.
تكثر التحليلات حول هذه الاجتماع في ظل قلّة المعلومات وهي تتراوح بين من يتحدث عن خارطة طريق للبنان رئاسياً وحكومياً وإقتصادياً وفق ضوابط زمنية وبين من يؤكّد أنه سيقتصر على استمرار تأمين المساعدات للبنان. لكن الأكيد أن هذا الاجتماع لا يعني ان لبنان في صدارة جدول اهتمامات المجتمع الدولي، فأي خارطة طريق مزعومة مصيرها كمبادرة "قصر الصنوبر" لأن لا ادوات لفرض تطبيقها والاصح لا نيّة دولية بالبحث عن ادوات مجدية.
قد تعتبر بعض الاطراف الدولية أن الاولوية هي لوضع حد للفراغ وإنتخاب أي رئيس للبنان. لكن هذه الطروحات تسقط أمام مضمون ثلاثية البيان السعودي – الفرنسية في 5/12/2021 والمبادرة الكويتية والبيان الثلاثي في كانون الثاني 2022 والبيان الثلاثي الاميركي – الفرنسي - السعودي في 22/9/2022. هذا المضمون يرتكز على أهمية الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته ووحدته بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن وعلى وضع حد للسلاح غير الشرعي وعلى تطبيق الاصلاحات.
6 شباط هذه المرة، لا يمكن ان يأتي لمصلحة "الشيعية السياسية" على حساب مصلحة لبنان. فأي مغامرة رئاسية لـ "الشيعية السياسية" عبر فرض رئيس للجمهورية كسليمان فرنجية كما فرضت "حكومة القمصان السود" عام 2011، ستكون الشعرة التي ستقصم ظهر هذه "الشيعية الساسية". الامر ليس بسب أي تدخل خارجي بل بسبب عدم التدخل الخارجي لإنقاذ لبنان من الانهيار المالي والاقتصادي ورهانهم على "سيف إستخراج الغاز" سيكون قد سبقه العذل.