الصدام النفطي....بين اعتبارات أوبيك التقنية وأهداف واشنطن الاستراتيجية

OPEC-in-Vienna

ضجت وكاﻻت الأنباء العالمية في الساعات الأخيرة بخبر قرار أوبيك بلاس تخفيض الإنتاج اليومي للنفط بمليوني برميل، محاوِلةً إستشراف خلفيات مثل هذا القرار وظروفه وتداعياته على اﻻقتصاد العالمي، في ظل تصاعد غضب أميركي واضح من خلال تصاريح لكبار المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن الذي عبّر عن خيبة أمله من القرار.

واشنطن اعتبرت بوضوح أن القرار تصرّف عدائي ضد مصالحها، متهمةً بالتحديد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية بالوقوف الى جانب روسيا ضدها، فيما تعالت أصوات من داخل الكونغرس مطالبةً بإجراءات مضادة في حق البلدين الخليجيَين وضد أوبك بلاس.وزير الطاقة السعودي اعتبر أن أوبك بلاس ستبقى قوة أساسية ﻻستقرار السوق العالمي، معتبراً القرارات الإستباقية التي اتخذتها أوبيك بأنها ساهمت في الحفاظ على سوق نفط مستدام.

وفي انعكاس أولي ومباشر للقرار، تعافت أسعار النفط التي هبطت من ١٢٠ دولاراً للبرميل الواحد الى نحو تسعين قبل ثلاثة أشهر، بسبب المخاوف من ركود إقتصادي عالمي ورفع أسعار الفائدة الأميركية وارتفاع الدولار.تخفيض الإنتاج لم يأتِ من فراغٍ بل جاء نتيجة عوامل عدة ليس أقلها الإقفال لعدد من المدن في الصين، ما يقلل من استهلاكات الطاقة النفطية، فضلاً عن الركود الإقتصادي المتوقَع وتراجع الطلب على النفط في الأسواق العالمية.

هذه الإعتبارات التقنية والإقتصادية لم تُقنع على ما يبدو الأميركيين، وقد صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان أن الرئيس الأميركي بايدن أُصيب بخيبة أمل من قرار أوبك بلاس، معتبراً أن قرار التكتل "قصير النظر" بخصوص تخفيض إنتاج النفط، فيما اعتبرت واشنطن أن أوبك بلاس متحالفة بوضوح مع روسيا في اتهام مباشر للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

الصحف الأميركية والمواقع الإخبارية الأميركية اعتبرت القرار صفعة سعودية- روسية مشتركة لواشنطن، ما عزّز اﻻعتقاد لدى واشنطن بوجود تحالف سعودي- روسي ضدها.في قراءة موضوعية للقرار وحيثياته، نجد أن اﻻعتبارات التي حدت بأوبك بلاس الى تخفيض الإنتاج اليومي جلّها تقني ﻻ سياسي وإن كانت لهذا القرار نتائج سياسية إنما لم تكن اﻻعتبارات السياسية وراء صدور قرار التخفيض.

فالركود الإقتصادي العالمي المتوقَع وارتفاع الفوائد الذي سيستجر التقليل من اﻻستهلاك للنفط وانخفاض طلب الصين على النفط بسبب جائحة كورونا كلها أسباب قاهرة دفعت بالمنظمة الى اتخاذ قرار بحجم تخفيض الإنتاج لمنع حدوث كارثة إقتصادية عالمية في مجال الطاقة، إذ لو استمر المعروض النفطي الحالي وليس هناك من طلب عليه فسيؤدي ذلك الى انهيار الأسعار، ما يضرّ بالدول المنتجة والمصدّرة للنفط وبأمنها واستقرارها ومصالحها.واشنطن الديمقراطية واقعة في تناقض كبير من خلال موقفها السلبي وردة فعلها المتسرّعة، إذ في وقت تتهم أوبيك بلاس بقرار سياسي وراء تخفيض الإنتاج، وهي التي تطالب حقيقةً أوبيك بلاس باتخاذ قرار سياسي.كل ما يهم واشنطن من موضوع النفط هو زيادة الإنتاج لتوجيه ضربة سياسية لعائدات موسكو من مبيعات النفط، غير آبهة بالتداعيات الكارثية لزيادة الإنتاج على مصير أسعار النفط واﻻستقرار العالمي،وبالتالي فإن تخفيض الإنتاج وجّه ضربةً سياسية لإدارة بايدن على أعتاب التجديد النصفي للكونغرس.

واشنطن بموقفها هذا تضرب عرض الحائط بمصالح الدول المنتجة مراعاةً فقط لمصالحها في زيادة الإنتاج بهدف إضعاف إيرادات روسيا وحرمانها من عائدات نفطية عالية، ما يعني طلب واشنطن من أوبيك بلاس قراراً سياسياً وليس تقنياً، الأمر الذي ﻻ يتلاءم مع مصالح الدول المنتجة والمصدّرة.واشنطن اذاً هي التي تريد تسييس أسعار النفط وليس أوبيك بلاس أو الدول النفطية، وإلزام تلك الدول بسداد فاتورة حربها ضد الروس من مصالحها وأمنها واستقرارها ولو اقتضى الأمر خدمة الهدف اﻻميركي،فبقدر ما تسعى واشنطن الديمقراطية الى تأمين مصالحها في حربها مع روسيا بقدر ما تهمل ﻻ بل تضرب عرض الحائط بمصالح المملكة العربية السعودية في اليمن، وبقدر ما تسعى واشنطن الى تحقيق مصالحها ضد روسيا بقدر ما تهمل مصالح الخليج في موقفها من إيران عبر محاوﻻتها أحياء اﻻتفاق النووي.كذلك لم تراعِ واشنطن مصالح المملكة ودول الخليج في قرارها تجميد صفقة السلاح، وبالتالي ما تريده واشنطن هو أن يتم تأمين مصالحها هي من دون الإلتفات الى مصالح المملكة العربية السعودية ودول الخليج.

أما بالنسبة لواشنطن فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد روسيا، وقد ذهب بها الأمر الى دراسة إمكانية رفع بعض العقوبات على فنزويلا لتعويض السوق النفطي بالنفط الفنزويلي وتخفيض الأسعار بفعل المعروض الفنزويلي،فتذهب واشنطن في موقفها هذا من فنزويلا الى حد القبول بمغازلة دولة مارقة بدل مراعاة مصالح حلفائها في أوبيك بلاس، ما ﻻ يمنعها في نفس الوقت من مطالبة هؤﻻء الحلفاء بتسديد فاتورة نزاعها مع موسكو.واشنطن تذهب الى حد البحث عن سبل لتقليل اعتمادها على أوبيك بلاس، وقد قام الرئيس بايدن بتحرير المزيد من النفط من الإحتياطي اﻻستراتيجي للسيطرة على استقرار السوق العالمية ووافق على مزيد من عقود التنقيب في الوﻻيات المتحدة،

وبالتالي فإن واشنطن بدعوتها الى التخلي عن اعتمادها على أوبيك بلاس تنحو منحى خطيراً يتمثل بمعاداة حلفائها في المنطقة بدءاً من المملكة العربية السعودية، وكأنها تريد التضحية بتلك العلاقات التاريخية بين البلدين واﻻستغناء عن نفطها.بحسب صحيفة وول ستريت جورنال لم يفعل أي رئيس أميركي لجعل الوﻻيات المتحدة أكثر اعتماداً على الطاقة الأجنبية أكثر مما فعله الرئيس جو بايدن في أقل من عامين، وقد وعد قبيل دخوله البيت الأبيض بخفض الإنتاج النفطي والغازي في قلب الوﻻيات المتحدة في وقت يقوم فيه الديمقراطيون في الإدارة والكونغرس بكل ما يمكن لجعل استخراج النفط والحفر صعباً، كذلك اﻻستثمار فيه عديم الجدوى.

المعلومات تتقاطع في اعتبار أن ثمة ضغوطاً تُمارس على الرئيس الأميركي من قوى اليسار وقوى المُناخ والطاقة البديلة تمنع الأميركيين من إنتاج النفط، ما يزيد من اعتماد واشنطن على النفط الأجنبي، متكئاً الى دول الخليج لسداد الفاتورة عند وقوع المشكلة من دون أخذ مصالح تلك الدول بعين الإعتبار.ما يحصل اذاً بموضوع قرار أوبيك بلاس وتداعياته أميركياً هو دليل إضافي على اﻻختلال في التوازنات بين القوة العظمى وحلفائها في المنطقة، ووجه آخر من أوجه الصراع بين النظرة الديمقراطية الى الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والنظرة الخليجية الى نهج سياسي أميركي ﻻ يراعي الحد الأدنى من مصالح حلفاء واشنطن التاريخيين.

أوبيك بلاس تكلمت بلغة التقنيات وواشنطن ردت بالتصعيد والتسييس، ما أفرز "واقع الصدام النفطي الحالي".

في العام ٢٠١٤، صرّحت وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش كوندوليزا رايس بضرورة تغيير هيكلية الاعتماد على الطاقة الروسية والتوجّه نحو أميركا الشمالية حيث الثروة الهائلة كما وصفتها للنفط والغاز، هناك تعفي مرور خطوط الأنابيب عبر أوكرانيا وروسيا للأوروبيين في موقف كشف حقيقة أهداف واشنطن ونواياها تجاه أوروبا وروسيا، وبالتالي رغبة واشنطن المزمنة ليس فقط في محاربة روسيا نفطياً " وطاقوياً " بل وأيضاً في اﻻستئثار باللإنتاج العالمي والتحكّم به، ما يعني التغريد خارج سرب أوبيك وأوبيك بلاس بجرّ أوروبا الى اﻻعتماد على النفط والغاز الأميركيَين بدل الروسيَين.وأخطر ما قالته رايس في تصريحاتها إنه في حال اجتاحت روسيا أوكرانيا فلن يكون هناك "نورد ستريم" وسوف تقضي واشنطن على هذا المشروع،فهل تكون واشنطن وراء تفجير خطي نورد ستريم ١ و ٢ مؤخراً ؟وهل تكون لتلك الأهداف علاقة بالتوتر الأميركي إزاء قرار أوبيك بلاس بتخفيض الإنتاج لاسيما وأن استمرار أوبيك في التحكّم بالسوق النفطي العالمي يعيق خطة واشنطن المزمنة بالتحكم بالأسواق النفطية انطلاقاً من منصات شمال أميركا؟

الصدام النفطي العالمي على أشدّه والتوتر متصاعد وقد تكشف الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة الكثير من الحقائق والوقائع في سياق تداعيات قرار تخفيض الإنتاج على استقرار الطاقة العالمي وأمنها.ما نستطيع قوله ختاماً هو تذكير بمقالنا السابق بعنوان " الخليج في مهب الحرب العالمية " حيث أن أثقال الصراع الدولي بدأت تؤثر على دول المنطقة وبخاصة دول الخليج ويبدو أن الغيوم تتلبد بأسرع مما توقعنا، إن لم يتم إيجاد قاعدة تفاهم بين مصالح دول المنطقة والغرب ولا سيما في صراع الطاقة العالمي لا بل حرب الطاقة العالمية.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: