تدهورَ الوضع في العراق على النحو الذي كنا قد توقعناه، لكن الجديد المفاجىء كان إعلان مقتدى الصدر اعتزال الحياة السياسية، ما دفع بأنصاره الى اجتياح المنطقة الخضراء في بغداد واقتحام مقري الحكومة ورئاسة الجمهورية.إعتزال الصدر زاد الوضع تعقيداً لا سيما وأنه جاء تتويجاً ليس فقط لانسداد أفق الحل، لا وأيضاً نتيجة صراع بين المرجعيات الشيعية إثر إصدار المرجع الشيعي كاظم الحائري بياناً يعلن فيه توقفه عن مهامه كمرجع ديني، مطالباً العراقيين طاعة المرشد الإيراني علي خامنئي، الأمر الذي أثار غضب مقتدى الصدر لمعارضته اتباع المرجعية الإيرانية بدل مرجعية السيستاني في العراق.
إنه وجه آخر من الصراع بين شيعة العراق العرب وشيعة إيران، ووجه آخر للصراع المستحكم بين الفريقين الشيعيين في العراق، الصدريين في مقابل الإطار التنسيقي.واللافت انضمام الحائري في موقفه الى الجانب الإيراني وتوجيهه انتقادات كبيرة لمقتدى الصدر متهماً إياه بالتفريق بين أبناء الشعب والمذهب بأسم الشهيدين الصدريين،ما يعكس الهوة الكبيرة التي باتت تتحكّم بالعلاقات بين المرجعيات الشيعية في العراق نتيجة تأثر بعضها بالمرجعية الشيعية لولاية الفقيه.
قرار الصدر بالاعتزال هو قرار تكتي أكثر منه استراتيجي، فليس مستبعداً أن يعود عن قراره باعتزال الحياة السياسية بعد فترة لكي تكون لعودته قوة تجييرية شعبياً أكبر، فيكرّس نفسه ليس فقط زعيماً للتيار الصدري الأكبر والأوسع بل وأيضاً زعيماً وطنياً ودينياً، وربما مرجعية الشيعة العراقيين الأول.العراق يعيش حالياً أسوأ أوضاعه السياسية، فيما القيادات الرسمية الثلاث لا حول ولا قوة لها سوى التقليل قدر الإمكان من الخسائر ومنع انزلاق الوضع الأمني الى ما لا تُحمد عقباه.فكل السيناريوهات مطروحة وأسوأها أن يعقد الإطار التنسيقي جلسة برلمانية لتعيين رئيس جمهورية وتشكيل حكومة موالية لإيران، الأمر الذي سيفجّر بشكل خطير الوضع ويضع العراق أمام حتمية حرب أهلية.
وأسوأ ما في هذا الخيار انه يجد تبريراته السياسية والدستورية من امتلاك الإطار للمشروعية البرلمانية والدستورية بعد خروج كتلة الصدر المنتصرة في الانتخابات التشريعية الأخيرة من البرلمان، ما أتاح للإطار الحلول مكانه ليصبح القوة الشيعية الأقوى داخل البرلمان بعد الكتلة الصدرية المنسحبة.تتزامن الأحداث الحالية مع ترقّب ما ستحدده المحكمة الآحادية العليا يوم الثلاثاء لجهة طلب التيار الصدري وبعص المستقلين الدعوة الى انتخابات مبكرة وإعلان بطلان الانتخابات الأخيرة في ظل أجواء توحي بعدم قبول المحكمة بهذا الطلب والتوجه نحو تأكيد الانتخابات الأخيرة وعدم تأييد انتخابات مبكرة.
والمعلوم أن الصدر يطالب بانتخابات مبكرة كبديل عن تشكيل حكومة لا تكون له اليد الطولى فيها كونه الإطار الأوسع والأكثري، فيما يصر أتباع إيران على تشكيل حكومة وحدة وطنية تبقى تحت تأثير السياسات والأجندات الإيرانية في العراق.
والملاحظ أن التصعيد في العراق يتزامن مع الكباش الجاري حالياً في الملف النووي بين طهران وواشنطن، حيث تحاول طهران من خلال الورقة العراقية إثبات قدرتها على التأثير على مسار الوضع السياسي العراقي وخربطة كل الحسابات والمعادلات انطلاقاً من العراق، كما هي رسالة إيرانية لإسرائيل عن قدرة إيران المستمرة على المواجهة الإقليمية من خلال أوراق ضغطها انطلاقاً من حديقتها الخلفية التي تعتبرها العراق.مقتدى الصدر أصبح اليوم رمزاً عراقياً لمقاومة التأثير الإيراني وسيطرته على العراق، ومن خلاله على المنطقة العربية، ما يعني صعوبة كسر التيار في العراق وإمكانية توظيف انتفاضته لا بل ثورته في بغداد عربياً وإقليمياً، وبخاصة في الدول التي ترزح تحت الاحتلال الإيراني كما في لبنان.وقد تمكن الصدر من التحوّل من زعيم ديني شيعي الى زعيم وطني، بدليل ليس فقط تأييد شرائح شعبية عراقية سنّية وكردية لتحركه بل وأيضاً من خلال اختزاله طوال خمسة أسابيع على بداية تحركه الحياة السياسية في العراق، وشل قدرة الإطار التنسيقي على فك تحركاته الشعبية الإحتجاجية في المنطقة الخضراء، ودور المؤسسات الرسمية الرئيسية في ظل عجز جميع القوى على إيجاد قواسم حوار مع الصدر، وهذا الامر هو الذي شكل في مكان ما إمكانية عودة الصدر عن قراره بالاعتزال.
المنطقة برمتها اليوم منقسمة عمودياً بين الشعوب العربية في بلدانها من كافة الطوائف والمذاهب والشعوب الإيرانية أو "المتأيرنة"، والصراع على أشده بين الطرفين حيث لا مجال لإيجاد قاعدة حوارية مع طهران التي تجد نفسها الأقوى والأقدر على حكم المنطقة، بحيث لا ينفع معها أي سياق حواري ما لم تتبدل النظرة الإيرانية تجاه دول المنطقة وشعوبها، الأمر الذي لا يبدو جلياً الى الآن، وفي كل الاحوال وبخاصة اذا ما وقّعت طهران اتفاقاً نووياً وتنعّمت بالقدرات المالية والاستثمارية التي ستزيد من غطرستها واحتلالها عبر ميليشياتها لدول المنطقة.حكومات المنطقة وشعوبها العربية أمام واقع "تغول إيراني فاحش" واستمرار نظرية زعزعة الأنظمة، وهذا مبرر وجود نظام الملالي لانه متى استقرت المنطقة واتجهت نحو النمو والتنمية انتهى دور النظام الإيراني المبني على فلسفة الثورة وتصديرها وضرب الأنظمة الدولتية أو ما يُعرف بالأنظمة الوطنية إحقاقاً لأهداف عقائدية وتوسعية.
مقتدى الصدر بإعلان اعتزاله أمس يُفسح في المجال أمام جميع العراقيين للتعبير عن غضبهم، وقد نزع عن الثورة هويتها الصدرية كي تصبح عابرة لكل الطوائف والتوجهات السياسية السيادية الرافضة لنظام سياسي مفروض على العراق من خارج حدوده.
والفريق الموالي لإيران يُطلق مبادرات لا تقدم ولا تأخر لأنها كلها تعويم لمصالح إيران في العراق وهي لا تراعي مصالح العراقيين والدولة العراقية.
فهدف المبادرات هذه الحفاظ على مكتسبات أحزابها وأنظامتها السياسية، ما ينفي أي حل ممكن في ظل سيطرتها على السلطة وغايتها إنقاذ نفسها وأجندتها الإقليمية، فالجماهير العراقية رافضة لأي حل من هذا النوع " الترقيعي "ولن تسكت.إيران تحاول اليوم تطويع التيار الصدري من خلال العمل على إخضاعه لمرجعية الولي الفقيه في إيران على حساب المرجعية العراقية في النجف، وهذا تحدٍ خطير ووجودي في تهميش المرجعية من الذات المحيطة بتلك المرجعية نفسها، ومن هنا خطورة رسالة الحائري الواضحة جداً والخطيرة جداً لأنها اختصرت الرسالة بأن لا حل خارج طهران، فإيران تتحرك في العراق في المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية كافة لإخضاع العراقيين الشيعة لتوجيهات الولي الفقيه. اعتزال الصدر العمل السياسي هو بمثابة تراجع تكتيكي لأن من الصعب عليه مواجهة الضغط الديني الذي لا يبدو مستعداً لمواجهته، كما لايستطيع التراجع في وجه الضغوط الداخلية من فرقاء إيران لأنه عندها يضحّي برصيده الشعبي،فالجماهير وجهاً لوجه في غياب القيادات، والمناشدات باتت تطالب بتغيير النظام السياسي من قبل الأطراف غير الخاضعة لإيران وغير "المأدلجة" عقائدياً.
كل شيء في العراق الآن بات واضحاً ومكشوفاً وملموسا أمام الجميع، فالتآمر الإقليمي والدولي على العراق بات جزءاً لا يتجزأ من نفس التآمر على سائر دول المنطقة، واذا كان العراق خط الدفاع الأول والأساسي عن عروبة المنطقة، فإن المطلوب في هذه اللحظة التاريخية ملاقاة شعوب المنطقة المحتلين من إيران مع الثورة العراقية، لا ترك العراقيين الأحرار في مواجهة أعتى تيوقراطيات المنطقة التي زُرعت في قلب العالم العربي لزعزعته والقضاء عليه خدمة لأجندات غربية بانت المرة الأولى مع اتفاق ٢٠١٥ النووي، وتظهر مجدداً في الوقت الراهن مع قرب التوقيع على اتفاق سيء.
إيران تريد نهب مال العراقيين كما أموال وموارد الشعوب التي تحتلها من اليمن الى سوريا ولبنان، كما تريد تحطيم الحياة لدى تلك الشعوب وكل ما يتعلق بأمل المستقبل لديها.الشعب العراقي اليوم يعطينا جميعاً مثالاً نموذجياً لشعب عندما خُيّر بين الحياة الكريمة بالذل أو الموت بعز، وبالتالي بدأ الحراك الجماهيري يتوسع والساحة مفتوحة أمام كل القيادات الوطنية للمشاركة في معركة استعادة الدولة والوطن من غاصبيهما الداخليين والخارجيين.