الفرصة الرابعة ثابتة

Doc-P-1213728-638544367591129934

كتب شارل جبور في نداء الوطن:

كان الأمل أن تطوى صفحة الحرب في العام 1990، وتكون خاتمة وعبرة، ولكنها استمرّت بأشكال مختلفة، لأنه في كل مرة لاحت فيها فرصة في الأفق كان يتم إسقاطها. فبعد المواجهة مع الدولة البديلة لاحت فرصة إنقاذية مع الرئيس بشير الجميل، ولكن سرعان ما تم الانقلاب عليها، وتجدّدت الفرصة مع اتفاق الطائف الذي سرعان ما تم الانقلاب عليه أيضاً من خلال مصادرة نظام الأسد للقرار اللبناني، وتجدّدت الفرصة للمرة الثالثة مع انتفاضة الاستقلال وخروج جيش الأسد، ولكن لم يختلف مصير الفرصة الثالثة عما سبقها مع تمسُّك “حزب الله” بسلاحه خلافاً للدستور ولأي منطق، فيما لا يمكن أن تستقيم شؤون دولة في العالم في ظل سلاح شرعي وغير شرعي، وهذه خلاصة تجربة عمرها 50 عاماً دفعها الشعب اللبناني من لحمه الحي.

وبمعزل عن التباين حول أسباب الحرب واستمرارها، جوهر المواجهة كان بين من يريد لبنان دولة طبيعية تنأى بنفسها عن محاور الصراع الخارجية، وبين من يريد تحويله إلى منصة إقليمية بعنوان فلسطيني تارة، وسوري طوراً، وإيراني أخيراً، وهذه المنصة كانت تتطلّب إخضاع الشعب اللبناني، ومواجهة كل من يرفض سحل الدولة وتحويل البلد إلى ساحة صراعات وفوضى وحروب.

لم تندلع الحرب بسبب صراع صلاحيات رغم أن مطلب المساواة هو حقّ بديهي،فيما التمسُّك بالصلاحيات كان وليد اعتقاد خاطئ بأنه يُبقي لبنان على صورة التأسيس، في ظل انقسام عميق حول معنى لبنان ودوره، بين فئة ترى نفسها مرتبطة عضوياً بالعمق الخارجي وتبدّي أولويات هذا الخارج على الأولويات اللبنانية، وأخرى تريد تحييد البلد عن الخارج، وهذا ما شكّل جوهر ميثاق العام 1943 والذي من دونه لا من استقلال ولا من يحزنون.

فالخلاف حول الصلاحيات كان قائماً، ولكن عمق الخلاف الذي فجّر الحرب كان بين من دافع عن حقّ الفلسطينيين باستخدام لبنان لمواجهة إسرائيل، ومن رفض منحهم هذا الحقّ، وبين من اعتبر أن وجود الجيش السوري في لبنان هو وجود طبيعي في بلده الثاني، ومن رفض هذا الوجود، وبين من اعتبر أن تسلُّح “حزب الله” بمسمى المقاومة هو حق، ومن اعتبر هذا التسلُّح اعتداء على اللبنانيين والدولة والسيادة.

لا يكفي أن تندحر إيران من أجل أن يقتنع “الحزب” بلبنان، إنما من الضروري وصول اللبنانيين إلى قناعة حول الثوابت التالية:

أولاً، إسقاط أي تفكير إن بإلحاق لبنان بمشاريع خارجية، أو بالسعي إلى ضمه لمحاور صراعية، أو باستخدام الخارج لفرض غلبة في الداخل، فلبنان وطن قائم بذاته وحدوده نهائية ودستوره وميثاقه ليسا وجهة نظر، وانتسابه إلى الشرعيتين العربية والدولية في صلب هذا الدستور.

ثانياً،الإقرار بتعددية المجتمع كغنى فعلي لا شكلي، والتسليم بأن انبثاق السلطة يجب أن يشكل انعكاساً حقيقياً لهذا التعدُّد بمعزل عن العدد.

ثالثاً، الإقلاع عن فكرة إخضاع جماعة لجماعات أخرى بقوة السلاح أو العدد في عملية انقلابية على طبيعة المجتمع اللبناني

رابعاً، التسليم بمرجعية الدولة التي تمثِّل العمود الفقري للتعدُّد في لبنان، وتشكل الضمانة للمجموعات كلها، كما الضمانة للاستقرار الذي من دونه يتحوّل لبنان إلى ساحة على غرار ما هو عليه منذ خمسين عاماً.

خامساً، وضع حدّ نهائي للمنطق النزاعي القائم على فكرة سيطرة جماعة وإخضاعها الجماعات الأخرى لطبيعة رؤيتها للبلد، خصوصاً أن تجربة 50 عاماً يجب أن تشكل درساً للجميع بأن الخروج عن الدولة يُحوِّل لبنان إلى ساحة فوضى وحروب وعدم استقرار.

سادساً، الضمانة الوحيدة لعدم الانخراط في الحرب مجدداً، تكمن في وصول اللبنانيين إلى قناعة بأن النضال من أجل حياة أفضل هو الهدف وليس التقاتل الذي يؤدي إلى تعاستهم، كما القناعة بأن الخلافات مهما كبرت لا يجب أن تؤدي إلى الحرب، إنما تنظيمها تحت سقف الدولة والدستور والمؤسسات هو الواجب.

ما يجب تأكيده أن الخوف على هوية لبنان ودوره لم يعد يقتصر على المسيحيين، إنما هو همّ مسيحي وإسلامي للحفاظ على نمط عيش آمن وحرّ ومستقر ومزدهر. والقلق المسيحي والإسلامي مبرّر بسبب التغييب المتواصل للدولة، وتحويل لبنان إلى ساحة صراعات وفوضى، وآخر فصول الحرب المستمرة منذ بداياتها في العام 1975 هي مع “حزب الله”، والتجربة معه سيئة للغاية، وعلى “الحزب” أن يعلن بوضوح التخلي عن مشروعه المسلّح الذي انتهى عملياً، خصوصاً بعد التطورات الكبرى التي نشأت عن حربَيّ الطوفان والإسناد، وذلك أن مع اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقّع عليه “الحزب”، أو مع ابتعاده عن الحدود مع إسرائيل في ظل الترتيبات لإحياء اتفاقية الهدنة، أو مع الوضع السوري الجديد الذي أقفل خط إمداده مع طهران، أو مع الواقع اللبناني الذي يرفض بأغلبيته الساحقة إبقاء الدولة مغيبة، أو مع الوضع الجيوسياسي المرتبط بدور إيران الإقليمي بحد نفسه، وعدم قدرتها على الاستمرار في هذا الدور مع الضغط الأميركي الكبير لتخييرها بين الحرب، وبين صفقة تتخلى بموجبها عن دورها التوسعي والنووي وصواريخها البعيدة المدى مقابل استمرار نظامها.

تختلف الذكرى الـ 50 لاندلاع الحرب في 13 نيسان 1975 عن كل ما سبقها، لأن آخر قوة إقليمية كانت تستتبع لبنان من خلال قوة محلية تابعة لها دخلت في خريف عمرها، ولم يعد باستطاعتها مواصلة دورها التخريبي في الدول التي استوطنتها، وهذا المعطى جوهري في ظل اندحار محور وحرص دولي على اندحاره، والتمسُّك بسيادة لبنان واحتكار الدولة وحدها للسلاح، وبالتالي الفرصة الرابعة تختلف عن الفرص التي سبقتها لجهة أن الانقلاب عليها غير ممكن، ولكن التحدي الأساس في القدرة على هندسة دولة محصنة من السقوط مجدداً أمام زلازل الإقليم وارتداداتها المحلية.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: