القضيّة اللّبنانيّة في الفاتيكان تصويب البوصلة

القضيّة اللّبنانيّة في الفاتيكان تصويب البوصلة

كتب زياد الصائغ في صحيفة النهار

“لم يقع لبنان صدفة في أزمة. دُفِع عمداً إلى أزمة بأجندة منهجيّة خبيثة”، هكذا بادرني صديقٌ عميق الحكمة برباطة جأشً وثِقة. هذه قناعةٌ معلّلة بالأحداث – التّواريخ منذ إجهاض مؤتمر سيدر في العام 2018. هذا في الماليّ – النقديّ، والاقتصاديّ – الاجتماعيّ، وفي كليهِما عوارضٌ لاختراقاتٍ مدمِّرة لكيان لبنان، وهويّة لبنان، وصيغة العيش الواحِد في لبنان. لا تُعفي هذه العوارض المنظومة الحاكِمة في تمظهراتها المافيويّة – الميليشياويّة من قرارها الجليّ بالانقضاض على الشعب اللبنانيّ في مسارِ جريمةٍ مُنظّمةٍ مُحكمة الخلفيّة الأيديولوجيّة، والاستشراف الوقائعيّ ضمن تصميمٍ عبثيّ يبدو سطحيًّا لكنه في العُمق سرطانيّ صامِت.  من هنا يثبُت أنَّ كلَّ المقاربات العوارضيّة للأزمة تبسيطيّ إلى حدِّ السذاجة، ويُقتضى تجاوزها إلى إعادة الاعتبار للقضيّة اللبنانيّة في مضامينها الوجوديّة والرّسوليّة والخياراتيّة. وقد يكون الكرسيّ الرسوليّ الذي استشعر عُمق الخطر على الكيان، منذ ما قبل تفجير الرّابع من آب، وبصمتٍ فعّال، قد يكون الأقدر على رؤيةٍ نقيّة لمندرجات هذا الخطر وآفاق مواجهته. وهي البطريركيّة المارونيّة، والتي رفعت مقام مأساة الشعب اللبنانيّ إلى مستوى توصيف تعرّضه “لإبادةٍ من حكّامِه كأنّه عدوّ” في إحدى عِظات البطريرك مار بشارة بطرس الراعي منذ أشهر، هي البطريركيّة المارونيّة معنيّة بالثبات في استلهام خيارات الآباء المؤسّسين لوطن الصّيغة والميثاق دون التباسٍ وتسويات، وتوسيع سياقات مواجهة اغتيال لبنان – الرسالة. بين الكرسيّ الرسوليّ بشجاعة البابا فرنسيس الذي أسقط فلسفة حِلفِ الأقليّات واستدعاء الحمايات وكرَّس المواطنة بالدّولة المدنيّة بوصلة للأخوّة الإنسانيّة، والبطريرك الرّاعي الحاثّ على إعلان حياد لبنان الناشِط، ورفع الأزمة التي يواجهها الشعب اللبناني إلى مستوى عربيّ-دوليّ، بينهما تقاطعٌ بنيويّ. في هذا التقاطع، تعود القضيّة اللبنانيّة هي الأساس. كلُّ حديثٍ هنا عن حكومة ورئاسة وانتخابات وصلاحيّات ومؤتمر تأسيسيّ تفصيلٌ عدميّ. المسألة حضاريّة في معادلة أنَّ لبنان، مهما حاول البعض تسخيف نموذجيّته في العيش الواحد، ومهما عاد بعضٌ آخر إلى خلفيّات تكوين لبنان بانفعالاتٍ تخوينيّة، واكتئاباتٍ جماعاتيّة، ومهما أصرَّ منتفِخون بارتباطات ما وراء حدوديّة، أو متمرّسون في رؤى تكتيكيّة، وحتى متفاعلون بحركيّة انهزاميّة، تبقى المسألة حضاريّة في مُعادلة أن لبنان مؤسِّسٌ في الاستقرار الإقليميّ والدَّوليّ، وهو النقيض لإسرائيل التي استحالت في الأسابيع الأخيرة، وفي تقويم الرأي العام الدَّوليّ، استحالت دولةً عنصريّة بعد أن وضعت نفسها لأكثر من سبعين عاماً في مصاف الدولة المُهدَّدة. النَّقيض لإسرائيل هنا، عنينا لبنان، ليس من باب القبضات المرفوعة والحناجر المدوّية، إذ في هذه الأخيرة كلُّ مقوّمات الارتياب بالأحلاف الموضوعيّة المشبوهة، بل من باب أنَّ العيش الواحد، في احتضان التنوّع كان ولَم يزَل حاجة إقليميّة ودَوليّة. ليس هذا بتفصيلٍ بتاتاً، بل هو جوهر القضيّة اللبنانيّة وفرادتها. ليس في الصيغة الميثاقيّة معطوبيَّة، بل هُم أزلام المصالح الضيِّقة والارتهان الخارجيّ، والطموحات النفوذيّة، والجَشع المُفسِد، هُم من أحالوا هذه الصِّيغة إلى مُختبر القضم التخريبيّ. لَم تُقَصِّر لعنة الجغرافيا في تعميمِ محاوِر نَحر هذه الصِّيغة الميثاقيّة. ولم يفهم ذوي التموضعات المشبوهة فداحة الخطيئة التي يرتكبون. بقِيَت عين الكُرسيّ الرسوليّ، على الرَّغم من كلِّ التعقيدات التي أسلفنا، يقظةٍ لرعايةٍ حكيمةٍ تُحيي هذه القضيَّة اللبنانيَّة. كان الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان” (1997)، مدخلاً لاهوتيّاً ببُعدٍ جيو-سياسيّ لنداء المطارنة الموارنة (2000). من المدخل اللاهوتيّ والنداء انبثق التحرُّر. قبل ذلك، في خضمّ الإعداد لوقف الحرب الميقت، أدّى الكرسيّ الرسوليّ دوراً جوهريّاً في اتّفاق الطّائف. الابتعاد عن إعلان الدّور رمزيٌّ من باب أنّه يعنيه عودة سلام لبنان والعيش الواحِد فيه، لا تشعُّبات الباحثين عن مواقع نفوذ. لكنّ انتفاضة الكرسيّ الرّسوليّ منذ الـ1997 على تجويف اتفاق الطّائف أتت أسرع من الديناميّات الدّاخليّة، والاقليميّة والدّوليّة التي تتالَت على الشعب اللبناني. بقِي الكرسي الرسولي صامِداً في رؤيته الثاقبة لموجبات تحرير وطن الرسالة من محتلّيه. لَم يقرأ أحد حتّى الساعة حِكمة هذه الرّؤية. دفع الشعب اللبنانيّ أثماناَ أكبر من أي يتحمّلها أيّ شعبٍ ولَم يزَل، لكنّ القَول بزوال لبنان وانتهاء الصيغة غير واقعيّ. التسمُّر في متحف اللحظة الرّاهنة انتحاريّ. فَهم اللحظة التاريخيّة استشرافيّ. التحرُّك على إيقاع أخبار وافِدة من هنا، وتحليلاتٍ آتية من هناك، دون إغفال ماكينة ضخّ سيناريوهات افتراضيّة رجراجة مشوّهة، هذا التحرّك يفتقد في كثيرٍ من الأحيان إلى نقاوة الإيمان بتاريخ لبنان. ليس هذا التّاريخ محيَّداً عن الإخفاقات، لكنّه حتماً مليءٌ بإشراقات.في لقاء مع البابا فرنسيس في أيلول 2019 كان عميقاً في تعبيره عن حُبِّه للبنان، وقناعته بسخاء ما قدّمه للعالم أجمع في جمال التعدّدية رغم العثرات. قبلها بعامٍ، وفي حديثٍ مقتضب معه على هامش مؤتمر حول مواجهة “العنصريّة القوميّة والتطرّف والشعبويّة”، وحين بادرته بأنّني لبنانيّ، هَمَسَ والنّور الفاعل يشعّ من عينيه “لبنان الرّسالة، العالم يحتاجكم، حافظوا على وطنكم رجاءً”. حينها ما كُنّا في الأزمة المتمادية. كُنّا في شكلٍ كاذبٍ من الاستقرار. كُنّا أسرى ولم نزَل. كُنّا ضحايا ولم نزَل. حينها فهمت أنّ الكرسي الرسوليّ لم يترك لبنان ولن يتركه. لم يترك لبنان ولن، ليس بالاستناد إلى خوفه على المسيحيّين كما يحلو للبعض التّسويق، فمؤمنو الرجاء لا يخافون، بل بالاستناد إلى قلقه وغضبه ممَّن انقلب من هؤلاء على الثوابت التاريخيّة لقيام لبنان من ناحية، ومِمّن احترف منهم الخضوع أو تدوير الزوايا أو التلطّي باختلال ميزان القِوى لإجهاض هذه الثّوابت من ناحيةٍ أُخرى. في تقدير موقِف موضوعيّ، من الجليّ أنّ البابا فرنسيس وأمين سرّ الدّولة الكاردينال بييترو بارولين انخرطا في مهمّةٍ نبويّة. مهمّة إنقاذ لبنان. قليلون سيستوعِبون حجم تأثير هذا الانخراط في عواصم القرار، ورؤيتهم الدّقيقة لمستقبل لبنان الجديد، بل ثمّة من يسعى إلى تمييع هذا التأثير والاستخفاف به. هؤلاء ما تنبّهوا لانتقال المجتمع الدولي للقَول بخطرٍ على هويّة لبنان منذ آب 2020، وقد استهلّه البابا فرنسيس بالإشارة إلى “الخطر الداهِم على الهويّة”، ليوفِد من ثمَّ الكاردينال بارولين إلى بيروت فيُعلن بقوّة الحِكمة للشعب اللبنانيّ: “لستم وحدكم، سنقوم بما يلزم مع أصدقائنا في العالم الحُرّ لإنقاذ بلدكم” (أيلول 2020). ليس لدى الكرسيّ الرّسولي جيوشاً، ولا كارتيلات اقتصاديّة، ولا دوغماتيّاتٍ ديكتاتوريّة لتعديل موازين قِوى يُهلّل له البعض، لكنّ لديه حُلفاء في إنهاء استراتيجيّات الدّمار والتّخريب. السِّتار الحديديّ في تلك الشيوعيّة هل يذكرها هذا البعض؟ ثمّة من واجهها بأساليب دولتيّة تقليديّة، فيما الكرسيّ الرسوليّ واجهها برسوخٍ في الإيمان، وتكتيلٍ للقِوى المجتمعيّة الحيّة. كذا الأمر مع توتاليتاريّات أميركا اللّاتينيّة البوليسيّة. هناك أيضاً كانت حالة وُصِفَت بالمستعصيّة. الاستعصاء دُكَّت مداميكه بصبرٍ ومثابرة وتراكم. الأوّل من تموز هو يوم القضيّة اللبنانيّة في الفاتيكان. يوم كلّ لبنانيّ. تصويب البوصلة بدأ، وما علينا معاً سوى الانكباب على بلورة خارطة طريقٍ إنقاذيّة عملانيّة بإعادة الرّوح لحقيقة أنَّ هذا الوَطن مباركٌ وعيشه الواحِد مِثال. يكفي انكفاءاتٍ وانسحابات وقِصر نظر وصبيانيّات. من اغتالوا لبنان راحلون، والأهمّ الصّمود والعمل. الأوّل من تموز انطلاقة تصويب البوصلة على كلّ المستويات. كلّها دون استثناءات أو حصانات. تصويب البوصلة جوهرهُ استعادة الشخصيّة اللبنانيّة أخلاقيّة انتمائها للخلفيّة الرائدة التي قامت عليها الصّيغة والميثاق بدستور الدّولة المدنيّة، والتي كرّسها اتفاق الطائف في شراكة الذاتيّات الخاصة حيث الحقوق للأفراد والضمانات للجماعات.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: