في الوقت الذي استعد فيه العالم لخطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بمناسبة ذكرى الإنتصار على ألمانيا النازية والذي كان متوقعاً أن يكون حاملاً إعلاناً ما يشكل انعطافة جذرية في الحرب في اوكرانيا، فوجىء المتابعون بشكل ومضمون الخطاب حيث بدا الرئيس بوتين مختصرًا في كلمته التي لم تتعد الدقائق العشرة والتي لم تتضمن أي إعلان من أي نوع كان بخصوص اوكرانيا والحرب الدائرة فيما اكتفى باتهام الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة برفض التعاون مقراً بدور الحلفاء في تحرير اوروبا والعالم من النازية معرجاً إلى الوضع الاوكراني من باب محاربة عودة تلك النازية في الدونباس وضرورة تحريرها .
واللافت بحسب المراقبين ان الرئيس بوتين بدا مستعجلاً وقد اختصر العرض لدرجة إلغاء العرض الجوي بحجة الظروف الجوية والتي لوحظ انها لم تكن ملبدة بالغيوم .بغياب أي إعلان روسي من طرف بوتين حول الحرب في اوكرانيا يمكن استخلاص الآتي :
أولاً- غياب اي انتصار يمكن للرئيس الروسي اعلانه في اوكرانيا اذ لو تحقق انتصار لكان ذكره .
ثانيا – ان الحرب في اوكرانيا مرشحة لان تطول وقد تحولت الى مأزق سبق لنا وتوقعناه بحيث ان الرئيس بوتين لا يمكنه التراجع بدون الدونباس والساحل الجنوبي لاوكرانيا وقد عجز حتى الان عن احداث اي خرق استراتيجي عسكري او احتلال اية مدينة من المدن الاستراتيجية كماريوبول او خاركيف او اوديسا او سيفيرودنتسك رغم المعارك الضارية والقصف المستمر وحصار المجمع الصناعي في ماريوبول في وقت يعلنها بصراحة لسد عصب شعبه بان روسيا نتعرض لتهديد اجنبي انطلاقا من اوكرانيا وتكتل الغرب المعادي ضد الشعب الروسي وبالتالي لا مجال الا لاستئصال التهديد النازي في اوكرانيا – كما في المقابل لا يمكن للاوكرانيين ومن ورائهم الغرب والناتو والولايات المتحدة على رأسهم ان يهزموا وتحتل اوكرانيا او جزء منها من الروس .
ثالثا – الحرب امام مفترقين : اما الاطالة في الزمن واستنزاف الروس عسكرياً وسياسياً واعلامياً والاوكرانيين بشرياً واقتصادياً وبنى تحتية بالتدمير واما توصل جميع الاطراف لقناعة بعدم جدوى الاستنزاف والجلوس على طاولة التفاوض – لكن ما دون الخيار الثاني صعوبات ليس اقلها الرغبة الاميركية في تعميق مأزق بوتين في اوكرانيا لاضعافه الى الحد الاقصى وضرب هيبته الدولية والداخلية في روسيا وتحويل اوكرانيا الى افغانستان اوروبي له وهذا ما وضعه المسؤولون الاميركيون السياسيون والاستخباراتيون والعسكريون نصب اعينهم منذ اليوم الاول لدخول الرئيس بوتين بجيشه اوكرانيا فيما اسماه عملية خاصة وهم يريدونها مناسبة للانتهاء من خطره للتفرغ للخطر الصيني الاكبر .ففي خضم هذا الصراع الذي يتحول يوما بعد يوم الى مأزق ليس روسياً- اوكرانياً فحسب بل وايضاً الى مأزق عالمي غربي – شرقي ذات ارتدادات ونتائج كارثية على الدول ولا سيما الضعيفة اقتصادياً ومعيشياً ومالياً وتنموياً وعلى الاوضاع الاقتصادية العالمية والامن الغذائي كي لا نقول الامن العسكري والامن الانساني والامن النووي فيما لو قرر الرئيس بوتين اطلاق ضربة نووية تكتيكية لفتح كوة في جدار المأزق انطلاقا من ان لا شيىء ليخسره ان بقي يستنزف في اوكرانيا .المأزق في اوكرانيا يصيب الجميع وبالدرجة الاولى الاوروبيين الذين بدأوا يستخلصون العبر من الذي يجري في قارتهم من حرب ويجاهدون في سبيل توحدهم للامساك مجددا بمصيرهم رغم الصعوبات التي يواجهونها في الاتفاق على سياسة مقاطعة مصادر الطاقة الروسية من غاز ونفط وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية والمالية التي بدأت ترتد على اسواقهم وشعوبهم من غلاء معيشة وقدرة شرائية ونقص في بعض المواد والبطالة والركود والتضخم .اوروبا اليوم امام تحدي مزدوج : كيفية الحفاظ على وحدتها وتماسكها في وجه التهديد الروسي المدمر على اراضيها وكيفية التخفيف من تأثير السياسات الاميركية عليها خاصة وان واشنطن تبدو للبعض من الاوروبيين في حملتها على غزو بوتين لاوكرانيا كمن يقاتل الروس بالدم الاوروبي وحتى اخر اوكراني ربما .
من هنا فإن الوضع الاوكراني ومن خلاله العالمي على كف عفريت بكل ما للكلمة من معنى حيث لا احد يدري ماذا يخبىء الغد للعالم .اما العقوبات الغربية القديمة والمستجدة فانها لن تؤثر في القريب العاجل على الرئيس بوتين ونحن بحاجة لاكثر من ستة اشهر لقياس تأثيراتها كما يردد خبراء اقتصاديين متخصصين في الشأن الروسي وذلك لسببين :الاول ان الرئيس بوتين وشعبه معتادون منذ العام ٢٠١٤ على العقوبات اثر احتلال القرم حيث فرضت عقوبات غربية عليهم ما دفعهم للتيقن وقياس مدى تأثير العقوبات عليهم والاحتياط منها للمستقبل وبناء اقتصاد مقاوم أو بديل وبخاصة في ظل وجود حلفاء لموسكو يمدونها باللازم كالصين والهند ، والثاني ان العقوبات الاقتصادية والمالية على شدتها وخطورتها، لا تؤثر في الرئيس بوتين ومحيطه المباشر وكل الذين يوالونه بدون أي تحفظ ومع توقع كل انواع الضغوط وقد تأكد ذلك مع عدم تأثر امبراطوريات الاوليغارشية المحيطة بالرئيس بوتين بالعقوبات الغربية الخانقة على اموالها .بانتظار حدث ما يقلب الموازين الدولية انطلاقاً من اوكرانيا، يمر العالم في اخطر مراحل وجوده السياسي والإقتصادي … والأمني وعلى الدول الصغرى والضعيفة استخلاص العبر لتحصين اوضاعها ولم شملها وخوض غمار استقلاليتها واستعادة سياداتها المصادرة منعاً لذوبانها في لعبة تبادل المصالح الجهنمية والتي تذهب ضحيتها هي أولآ.