خلافاً للاعتقاد السائد بأن نظام إيران هو النظام الذي يمثّل الشيعة في العالم العربي فقد أثبتت السنوات والتجارب أن هذا النظام هو الذي أنهى فعلياً المشروع الشيعي في المنطقة لحسابه، محوّلاً الوجود الشيعي الى أزمة داخل محيطه الطبيعي في العالم العربي.منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران ثمة غياب لأي مشروع سياسي شيعي في العالم العربي بسبب مصادرة عقيدة الولي الفقيه للشيعة ومشروعهم العربي في المنطقة انطلاقاً من "معصومية الإمامة" التي أُسقطت على الولي الفقيه وجعلته الحاكم المطلق على الشيعية المذهبية والعقائدية والسياسية.
وبذلك وضع النظام الإيراني المشروع الشيعي في مهب صراعاته المحلية والإقليمية والدولية وجعله وقوداً لمشروعه العقائدي المنطلق من حكم صاحب الزمان والولاية المطلقة على البيت الشيعي.
فالخمينية قضت على المشروع الشيعي بمجرد حلولها وقد خاضت إيران حروباً مدمّرة في الخليج جعلت الإيرانيين يرددون "لا غزة ولا لبنان روحي فدى إيران"، وجاء الخامنئي ليتابع القضاء على أي أمل بنهوض مشروع شيعي وطني قومي عربي في المنطقة، حاصراً في شخصه قداسة المعتقد الإيراني بحيث يصعب حتى على غير المؤمن بالولاية أن يخرج عنها أو يتمرد عليها، والدليل الحي الأحدث تاريخاً ما حصل مع مقتدى الصدر حيث، وبعد فشل المساعي لتهدئته وفشل كل الصيغ السياسية والدستورية والحكومية لإقناعه بالعودة عن انتفاضته، إستخدمت إيران سلاحها الفتاك في حق الشيعة وهو سلاح ديني سياسي كانت من نتائجه أنها قضت بإسم الدين على حركة الصدر بتجريده من المرجعية النجفية وإلحاقه بمرجعية قم.
ولعل المواجهة المسلحة التي حصلت بين شيعة الصدر وشيعة إيران في قلب المنطقة الخضراء في العراق كانت دليلاً ساطعاً وقاطعاً على إفلاس المشروع الشيعي الذي حدى بالشيعة الى الاقتتال تحت أعين وأنظار الولي الفقيه لتطويع الصدر والقضاء على ثورته وإعادته الى بيت الطاعة.
غياب المشروع السياسي الشيعي في المنطقة انطلاقاً من العراق إنعكس أيضاً على باقي شيعة المنطقة ومنهم لبنان، حيث قسم من الشيعة ثائر على نظام طهران لا يجرؤ على المواجهة وعلى قلب الطاولة على مثيله في الدين ولكن ليس في المعتقد، فيبدو أن الشيعة العرب لا يملكون الى الآن ثمن مواجهة الولي الفقيه، كما أنهم لا يملكون القدرة على الانتظام في صفوف موحدة وقد بلغ تفككهم حد الانقسامات العلنية والمواجهات الدامية.
غياب مشروع شيعي وطني جامع هو محنة الشيعة العرب في هذه المرحلة من تاريخ الصراعات في المنطقة،والمشكلة الأساس التي يواجهها الشيعة، ومن خلالهم العرب مع إيران وأنصارها في المنطقة، أنهم يتحاورون مع أناس لا يملكون من الإنتماء الوطني في دولة وطنية الا العناوين من دون أي مضمون، فيما هذا المضمون في مكان آخر في طهران حيث لا يبقى من وطنيتهم الا الغطاء الذي يحكم بإسم عالمهم الخاص.العراق أول من اصطدم بهذه المشكلة وبعده لبنان وصولاً الى اليمن حيث يُلاحظ فشل نماذج الحوار بين الأطياف المؤيدة لإيران : فأيران لا تريد مفاوضة أحد لأنها بكل بساطة لا تعتبر نفسها نداً لأي أحد من داخل الطائفة كما ومن خارجها، فالنظرة الإستعلائية والاستخباراتية لإيران تخاطب نهجها الإمبراطوري في القرون الماضية الأخيرة، وطهران اليوم تعتبر نفسها دولة محورية بحاجة لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية على حساب العرب ودولهم الوطنية.غياب المشروع السياسي الشيعي بات خطراً على الشيعة أنفسهم والفضل في ذلك لولاية الفقيه التي جوفت الفكر الشيعي من خلال استحضار المعتقد الديني وتجسيد حضور المهدي المنتظر واتخاذ الولي نفسه ولياً على المؤمنين لغاية عودة المهدي نائباً عنه وعن الله وعن الأنبياء، وبالتالي وجه الولي الفقيه الشيعة ليصبحوا وقوداً لنار الصراعات والغزوات والتي تمرّست بأربع حروب خاضتها إيران وأنهكتها، من الحرب مع صدام الى الحرب ضد الأميركيين.
الشيعة اليوم غائبون في العالم العربي وقد امتصهم الولي الفقيه وسياسات طهران الإقليمية والدولية التي هي بحد ذاتها خارج النظام الدولي بحيث أن إيران مشروع إسلامي سياسي يعتبر الدولة الوطنية منتج غربي معادٍ، وبالتالي يصب جام غضبه على الكيانات الدولتية ويفرض على الشيعة الإنخراط فيها.النظام الإيراني مشروع إمبراطوري توسعي مبني على فكرة الخلافة : خلافة داعش والميليشيات والقاعدة والإخوان المسلمين وولاية الفقيه، وهو بذلك لا يتبع النظام الدولي وأحادية الدولة وهو بالتالي شواذ عن هذا النظام.والأخطر أن سياسات إيران تضع الشيعة أمام خيار من إثنين أحلاهما مرّ : إما الإنطواء والسكوت على الباطل، وإما الإنخراط والاحتراق في صراعات إيران مع العالم.
اذا نجح نظام طهران بشيء في العقود الأربعة الأخيرة فهو في خلق مسألة شيعية باتت تتحدى أنظمة الدول الوطنية وتزعزع أمن المنطقة واستقرارها تحت ستار الدين.