كتبت د. جوسلين البستاني في صحيفة "نداء الوطن":
ستجري الانتخابات النيابية في لبنان في أيار 2026 ضمن مأزق لا مخرج منه، إذ إن كلّ خيار متاح يعيد إنتاج الخلل نفسه في موازين القوى. فالمشاركة السياسية تعني ضمنيًا التطبيع مع هيمنة السلاح، بينما تشير المقاطعة، وإن كانت فعل رفض رمزيّ، إلى التخلّي الكامل عن الساحة السياسية لصالح القوى التي كرّست هذا الواقع. بهذا المعنى، تعمل الطبقة السياسية اللبنانية ضمن مأزق بنيويّ يكشف حدود الممارسة الديموقراطية في ظلّ سلاح خارج الدولة.
وقد أدّى هذا المأزق إلى تآكل معنى التمثيل السياسي نفسه، إذ لم تعد الانتخابات تُمارس بوصفها آليةً للمساءلة والتغيير، بل طقسًا لتجديد نظام مأزومٍ وعاجزٍ عن الإصلاح، في بلدٍ أصبحت فيه السيادة رهينة توازن القوى، وسط حالةٍ من عدم اليقين السياسي والاستراتيجي العميق. في وقت تواجه الحكومة انهيارًا اقتصاديًا متسارعًا، بينما تظلّ مسألة نزع سلاح "حزب اللّه" من دون حلّ.
من هنا، إن المضيّ قدمًا في إجراء الانتخابات في ظلّ هذه الظروف ينطوي على مخاطر قد تؤدي إلى ما يمكن وصفه بـ "انتصار بطعم الهزيمة" (Pyrrhic victory) للديموقراطية اللبنانية. على الورق، سيحافظ لبنان على استمرارية العملية الانتخابية، لكن في الواقع سيحتفظ "حزب اللّه" وحليفه حركة "أمل" بالسيطرة الحصرية على 27 مقعدًا في البرلمان. فالقوّة القسرية للسلاح تقمع المنافسة داخل الطائفة الشيعية وتردع المرشحين غير المنتسبين إلى محور "المقاومة"، ما يلغي فعليًا التعدّدية ويعزز احتكار التمثيل. وقد سبق ووثق مراقبو الانتخابات في عام 2022 حالات ترهيب واسعة النطاق، وتدخلات في مراكز الاقتراع، وتهديدات مباشرة للصحافيين والمراقبين في المناطق التي يسيطر عليها "حزب اللّه". وما لم تتغيّر هذه البيئة القسرية، فإن نتائج انتخابات عام 2026 ستؤكد ببساطة الوضع الراهن تحت ستار الإجراءات الديموقراطية.
علاوة على ذلك، فإن البرلمان الذي سيتشكّل تحت الإكراه المسلّح، سيكون غير قادر هيكليًا على المضيّ قدمًا في خطة الإصلاح الدفاعيّ للحكومة أو إعادة تأكيد سيادة الدولة. وقد أشار مؤخرًا تقرير برلماني بريطاني إلى أنه إذا حققت قائمة "حزب اللّه" فوزًا كبيرًا في انتخابات عام 2026، فقد يؤدّي ذلك إلى تجميد خطط نزع السلاح.
في الوقت نفسه، فإن تأجيل الانتخابات حتى يتمّ نزع السلاح قد يؤدّي إلى أزمة دستوريّة. إذ لا توجد أي مادة تسمح بتمديد الولاية إلّا في حالات استثنائية جدًا (كالحرب أو القوة القاهرة)، ويجب أن يتمّ ذلك بقانون صادر عن المجلس نفسه. فالدستور لا يسمح بتعليق الاستحقاقات الانتخابية على شروط سياسية. ولأن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستحدّد ما إذا كان البلد سيحافظ على شكل الديموقراطية أو جوهرها، فإن إجراءها تحت تهديد سلاح "حزب اللّه" سيجعلها مجرّد طقس استمراريّ يكرّس سيادة الهيمنة بدلًا من سيادة الشعب. أي بمعنى آخر، مشاركة أدائية في نظام يدرك الجميع أنه عصيٌّ على الإصلاح.
ولتجنب هذه النتيجة المدمّرة، قد يكون هناك حلٌّ عبر تحرّك الشركاء الخارجيين والإصلاحيين اللبنانيين الآن، لنزع منطق الإفلات من العقاب، حتى وإن لم يتمكّنوا بعد من نزع سلاح "حزب اللّه". بالفعل، لا يكمن التحدّي في ما إذا كان ينبغي إجراء الانتخابات، بل في كيفية منعها من إضفاء الشرعية على الهيمنة المسلّحة، وذلك عبر تأمين سلامة العملية الانتخابية. من هنا، ينبغي على الشركاء الدوليين توسيع نطاق الدعم اللوجستي والمالي للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي لضمان حماية العملية الانتخابية من الترهيب. كما يجب أن تتمّ عمليات الانتشار الأمني تحت قيادة مركزية واضحة، بعيدة من سيطرة "حزب اللّه".
هناك أيضًا مسألة الرقابة المستقلّة، حيث ينبغي على الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات غير الحكومية اللبنانية الموثوقة نشر بعثات مراقبة كاملة النطاق، مع توفير إمكانية الوصول المحميّة إلى مراكز الاقتراع في الجنوب والبقاع. كما يجب ربط المساعدات المقدّمة من المانحين والشركاء العرب بالممارسات السياسية الملموسة، مثل إتاحة الوصول الإعلامي للمرشحين الشيعة غير المتحالفين مع "حزب اللّه" وحركة "أمل"، وتوفير الضمانات القانونية للحياد الانتخابي. وصولًا إلى صياغة سردٍ واضح، يبيّن في جوهره أن الإكراه السياسيّ المسلّح يُلغي الشرعية الديموقراطية. فالهدف ليس إلغاء الانتخابات، بل نزع الشرعية عن أيّ ادّعاء بأن النتائج المُحصّلة بالإكراه تمثل إرادة سياسية حرّة.
وفي حال لم يكن ممكنًا تطبيق هذه الشروط واقعيًا، فقد يؤدّي المضيّ في إجراء الانتخابات، على الرغم من رفض "حزب اللّه" نزع سلاحه، ورفض نبيه بري تعديل قانون الانتخابات خصوصًا لجهة آلية اقتراع المغتربين، إلى مفارقةٍ أحلاها مرّ: إذ لا خيار متاح إلّا ويعيد إنتاج ذاته ويكرّس الخسارة أو التنازل. من هنا، يغدو تأييد إجراء الانتخابات تسليمًا بقدرية المشاركة في نظامٍ مختلّ هيكليًا، لا يعبّر عن الإرادة الشعبية بقدر ما يكرّس واجهةً شكلية للشرعية.
فالمشاركة ضمن هذا الإطار تمنح المشروعية لمنظومة تُحوّل التداول الديموقراطي إلى إجراءٍ فارغ، وفي الوقت نفسه تضمن بقاء جميع القوى في دائرة السلطة، مانحة "حزب اللّه" ونبيه برّي الواجهة الديموقراطية التي يحتاجانها لتثبيت تحكّمهما بمفاصل الدولة.
القول إن الانتخابات ستضمن استمرارية المؤسسات أو تقدّم الإصلاحات تدريجيًا، يتجاهل الواقع اللبناني الصعب: الإصلاح يتطلّب منافسة سياسية حقيقية لتغيير موازين القوى، لكن اختلال التوازن القسري يفرض وقائعه ويقيّد أيّ "إصلاح" ضمن الخطوط الحمراء التي يرسمها "حزب اللّه" ونبيه برّي، ما دام السلاح قائمًا ولم يُستكمل نزعُه بالكامل.