انطلقت اليوم الأربعاء، أعمال المنتدى العربي الأوّل للمالية العامة والموازنة، تحت شعار "تعزيز الإنفاق على القطاع الاجتماعي والاستدامة المالية"، من تنظيم لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، وذلك في بيت الأمم المتحدة في بيروت.
ويجمع المنتدى على مدى يومين وزراء مالية وتنمية اجتماعية وتخطيط من المنطقة العربية، إلى جانب مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى، وخبراء، وشركاء في التنمية، وذلك لتبادل الخبرات واستكشاف حلول مالية وسياسات مبتكرة تعزّز الكفاءة والعدالة والمرونة المالية.
بداية رحب وزير المالية ياسين جابر في مستهل كلمته بوكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيذي للإسكوا بالإنابة الدكتور مراد وهبة، والمدير الإقليمي لليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إدوار بيغبيدير، وقال :"يسعدني أن أرحب بكم جميعا في بيروت، في افتتاح المنتدى العربي للمالية العامة والموازنة، الذي يجمعنا على مدى يومين من الحوار البناء وتبادل الخبرات، حول سبل تطوير إدارة المال العام وإعداد الموازنات بما يعزز أولوياتنا التنموية الوطنية، ضمن إطار من الانضباط المالي والاستقرار الاقتصادي الكلي".
أضاف: "إن اجتماعنا هذا ينعقد في ظرفٍ بالغ الدقة تمرّ به منطقتنا، حيث تتقاطع التحديات الأمنية والسياسية مع ضغوطٍ مالية واقتصادية متزايدة، تترافق مع مطالب اجتماعية ملحة وحاجات تنموية متجددة".
وقبل أقل من عام على لقائنا اليوم، كان وطننا لبنان يواجه تبعات حرب إقليمية مدمرة خلفت خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، وفاقمت هشاشة اقتصاداتنا ومجتمعاتنا.
لقد عانت منطقتنا، على مدى عقود، من تقلّبات مزمنة وبيئات غير مستقرة أعاقت قدرتنا على التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، ودفعت بسياساتنا العامة إلى نمطٍ أقرب إلى إدارة الأزمات منه إلى صناعة الرؤى".
وتابع: "فكثيرا ما كانت أولوياتنا المالية ترسم تحت ضغط الطوارئ الأمنية والتحديات الآنية، لا في ظلّ استقرارٍ يسمح بتخطيطٍ مستدام. لكن اجتماعنا اليوم في بيروت يحمل بحد ذاته رسالة أملٍ واضحة: أن منطقتنا قادرة على النهوض من الأزمات نحو عقدٍ اجتماعي جديد، يقوم على استعادة ثقة المواطن بمؤسسات الدولة وقدرتها على إدارة المال العام بعدالة وكفاءة وشفافية".
وقال :"إن التحدي الذي يجمعنا في هذا المنتدى هو كيفية تعزيز مصداقية وفعالية السياسات المالية، بوصفها ركيزة الثقة في العمل العام. لقد أثبتت التجارب أنّ التنمية لا تُبنى إلا على إدارةٍ رشيدة للمال العام، وأنّ الموازنة ليست مجرّد أداة محاسبية لتوزيع الاعتمادات أو ضبط النفقات، بل هي مرآةٌ لأولويات المجتمع وتجسيدٌ لتطلعاته. فالمطلوب هو تحقيق توازنٍ دقيق بين حاجات اليوم ومسؤوليات الغد — بين الاستجابة الفورية للضغوط الاجتماعية، والحفاظ على الاستقرار المالي وضمان استدامة الدين العام.
ومن هنا، تبرز أهمية تحسين استهداف الإنفاق الاجتماعي، وتوجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية، والاستثمار في رأس المال البشري، بوصفها ركائز أساسية لبناء اقتصادات أكثر صموداً وعدالة ونمواً.
وهذا التحدي ليس تقنياً فحسب، بل هو مسؤولية أخلاقية ووطنية عابرة للأجيال، لأننا نصوغ اليوم ملامح مستقبل أبنائنا. وفي لغة المالية العامة، تُختصر هذه المسؤولية بمفهوم واحد هو الاستدامة".
ولفت الى "إن الموازنة تقع في صميم العقد الاجتماعي، ولهذا بالذات تكتسب موضوعات هذا المنتدى أهميةً استثنائية". وقال :"وخلال اليومين القادمين، نتطلع إلى حوار مثمر وتبادلٍ للتجارب والخبرات الناجحة بين بلداننا الشقيقة، للاستفادة من أفضل الممارسات الإقليمية والدولية في إعداد الموازنات، وإصلاح المالية العامة، وتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة".
وأمل أن "يشكل هذا المنتدى خطوة عملية نحو ترسيخ التعاون العربي في هذا المجال الحيوي، وإرساء أسس مالية واقتصادية متينة تُسهم في بناء مستقبلٍ أكثر استقرارا وازدهارا لشعوبنا جميعا".
وشكر "الإسكوا واليونيسف على دعمهما المتواصل لهذه المبادرة، وإلى جميع الوفود المشاركة على حضورهم والتزامهم بروح التعاون والعمل المشترك"، متمنيا لأعمال المنتدى "كل النجاح والتوفيق، ولمنطقتنا العربية دوام الأمن والازدهار".
بدوره، قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيذي للإسكوا بالإنابة مراد وهبه: "إنّ تلك الأعباء ليست مجرد تحديات اقتصادية، بل اختبار للعقد الاجتماعي ولقدرة الحكومات على تحقيق العدالة وتوفير الفرص وتعزيز المنعة في وجه الأزمات". وتمنى أن "تكون الأدوات العملية التي ستستعرضها الإسكوا واليونيسف خلال المنتدى داعمة لصانعي القرار في مهمتهم الصعبة، المتمثلة بتحويل النفقات الاجتماعية من أعباء إلى استثمارات في المستقبل".
وفي رسالة مسجّلة، أكّد المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إدوار بيغبيدير أنّ "الإسكوا واليونيسف تجسدان معًا النموذج الأمثل للتعاون داخل منظومة الأمم المتحدة، من خلال تكامل القدرات، والرؤية الاستراتيجية المشتركة، والالتزام الموحد بدعم الدول الأعضاء في تصميم وتمويل نظمٍ تحمي الأطفال، وتمكّن الشباب، وتعزّز النمو الشامل".
أضاف: "إنّ هذه الشراكة لم تجعل هذا الحدث ممكنًا فحسب، بل ستواصل أيضًا أداء دورها كمنصة للابتكار والبحث ودعم السياسات الحكومية في مختلف أنحاء المنطقة".
واشار بيان الى ان " المنطقة العربية تخسر حوالي 112 مليار دولار سنويًا بسبب عدم كفاءة الإنفاق الاجتماعي، أي ما يعادل نحو 3.2%من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي، ما يستدعي العمل سريعًا على إنفاق عام أكثر ذكاءً وعدلًا واستدامة مالية لتحقيق تقدّم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وفي ظل تزايد أعباء خدمة الدين وضيق الحيز المالي، ستركّز المناقشات على إعادة التوازن في أولويات الإنفاق العام وتعزيز حوكمة المالية العامة عبر مقاربات قائمة على البيانات. وسيطلع المشاركون على أدوات سياسات متقدمة، من بينها لوحة مرصد الإنفاق الاجتماعي، والنمذجة والتوقعات الماكرو-مالية، وأداة المالية العامة من أجل الأطفال، وأداة الذكاء الاصطناعي للميزانية، وذلك لتعزيز اتخاذ القرارات المبنية على الأدلة وتحسين المساءلة في إعداد الميزانيات.
ويستند المنتدى إلى نتائج مرصد الإنفاق الاجتماعي، الذي طورته الإسكوا واليونيسف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ويُظهر المرصد أن معظم الدول العربية تخصص حصة أقل من ميزانياتها للقطاعات الاجتماعية مقارنة بالمعدل العالمي، كما تواجه اختلالات مستمرة في كفاءة الإنفاق العام. وتشتت أنظمة المتابعة الضعيفة والبرامج المجزأة الجهود الرامية إلى ضمان الوصول العادل إلى الخدمات الأساسية.
ويهدف إلى ترجمة التزام إشبيلية ومخرجات القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية إلى عمل إقليمي ملموس، من خلال بناء القدرات المؤسسية، وتعزيز الشفافية والشمول في إعداد الموازنات، ووضع خارطة طريق إقليمية لتمويل القطاعات الاجتماعية وتحقيق الاستدامة المالية".