ليس لأنه قواتيّ، ولا لأنه أب لثلاثة أولاد بحاجة بعد إلى عَرقِهِ ليكبروا، ولا لأن الحياة «بتلبقلو”، وليس لأنه لم يقتل في حياته، في كل حياته، فأرة، بل لأنه لبناني، أباً عن جدّ، يستحقّ أن يجول في لبنان، على مساحة 10452 كيلومترا مربعاً، ويعود إلى بيتِهِ في أمان الله والدولة.
فكيف إذا كان من اختطفوه فعلوا ذلك في عقر الدار، في جغرافيا أشبه ببيته الكبير، بأيادٍ تعرف كيف تسيء وتخطف وتقتل وتعيث فساداً وتغدر.
وهل أسوأ من أن يصبح الغدر في بلادنا وجهة نظر؟ باسكال سليمان فلتكن في أمان الله الذي ليس لنا سواه. أما العابثون فليعلموا: ما بتقطع. على أملِ أن ننهي هذا الموضوع بعبارة: خرج باسكال إلى النور… حقاً فعل…
فجأة، بينما كانت كلّ العيون متجهة الى وجهة الردّ الإيراني- هذا إذا حصل- والى الجنوب النازف والى قرقعات الفوضى المتنقلة من منطقة الى منطقة أخرى، ورد خبر سريع: إختطاف منسّق حزب القوات اللبنانية في قضاء جبيل. خبرٌ نزل مثل الصاعقة على اللبنانيين، كل اللبنانيين، المقهورين حتى العظم. فلماذا باسكال؟ هل سيتكرر سيناريو ما حدث مع رمزي عيراني وجوزف صادر والياس الحصروني (الحنتوش)؟ لماذا باسكال اليوم؟ هو شاب آدمي، أصله من ميفوق، ويسكن بين الحازمية وعمشيت. هو مدير المعلوماتية – الآي تي- في بنك بيبلوس، يعمل في الإدارة المركزية لبيبلوس في بيروت. هو شاب يثق بلبنان وبوجوب البقاء في لبنان. أب لثلاثة أولاد، هما صبيان وفتاة، وزوج ميشلين وهبة. وموقعه في الحزب إداري لا عسكري. وكل ما يقوم به شفاف. هو مثال الشباب القواتي الواثق بالبقاء تحت سقف الدولة. فهل سبب اختطافه إكتشافه ما يفترض أن يبقى سراً في وظيفته؟ هل لـ”حزب الله” دخل في الموضوع؟ هل السوريون هم من فعلوا ذلك؟ أسئلة أسئلة تتكرر في مثل هذه الحوادث التي يسودها الغموض.
البارحة، كانت معراب أشبه بخلية نحل. القواتيون نزلوا على الأرض. أوتوستراد جبيل أقفل، ليس لإقفال الطريق أمام الأهل بل للضغط على الدولة المتلكئة، التي لا تهتم بحياة إنسان ومصيره. هي سبق ونست الياس الحصروني ورمزي عيراني وجوزف صادر ولقمان سليم وضحايا تفجير المرفأ وشهداء سيدة النجاة وبيار بولس؟ فلما لا يكون باسكال سليمان، بالنسبة الى هكذا دولة فاجرة، واحداً من هؤلاء…
فرضيات
لا، هذا يكفي. رجاءً هذا يكفي. وإذا كان الرجاء لا يكفي فستكون- على ما بدا- خطوات أخرى. لكن، هل يفترض أن يضع كل واحد مسدسه على خصره ليحمي نفسه؟ سؤالٌ تكرر كثيراً في الآونة الأخيرة وأصبح ملحاً في اليومين الماضيين.
البارحة، قيل أن باسكال ما زال حياً. بعدها قيل أنه قد أطلق سراحه. بعدها قيل لا، هو لا يزال مخطوفاً. نشطت البارحة التسريبات. ثمة من يعبث من تحت الطاولة؟ أهي لعبة مخابراتية؟ هناك من طمأنوا – في الدولة – الى أنه سيعود سالماً؟ كيف عرفوا؟ من نصدق ومن لا نصدق؟ غموض غموض… زوجته ميشا (ميشلين) آخر ما كتبته على صفحتها على السوشال ميديا في عيد الفصح: أعظم قصّة حبّ إكليل شوك و3 مسامير. لم تدرك أن مسماراً سيُغرز في صدرها. باسكال منسق القوات في جبيل. هو لا يملك معطيات سرّية ليكون هدفاً. هو من جيل القوات الرابع (في أوائل العقد الرابع من عمره). دينامي لكنه ليس رقماً أوّل. لذا، ذهبت الترجيحات الى أسباب وخلفيات أخرى. منصبه في البنك قد يكون أحدها. التحليلات كثيرة. قيادة الجيش تحدثت عن توقيف سوريين – قيل أن عددهم وصل الى عشرة – أحدهم مشارك في تنفيذ الخطف. إعتدنا آسفين ألا نُصدّق كل ما نسمع وكلّ ما يُسرّب. في كلِ حال، من حلّل: هل يمكن لسوريين إنجاز مهمة كهذه تتشابه في تفاصيلها باختطاف الياس الحصروني ولقمان سليم؟ سمع جواباً، البحث جارٍ لمعرفة أي جهة سورية فعلت ذلك، والترجيحات أن تكون تابعة للنظام السوري، وبالتالي السؤال يفترض أن يكون من سهّل ومن دبّر ومن نفذ. القدرة الإحترافية التي مورست بها عملية الإختطاف ترجح أن من نفذوا – إذا كانوا حقاً سوريين – فهم يفترض أن يكونوا تابعين لجهاز أمني سوري محترف وليسوا سوريين يحملون السكاكين ويستقلون دراجات نارية. هاتف باسكال وجد في منطقة تحوم أما سيارة زوجته، التي كان يستقلها، فوجدت في أبو سمرا في طرابلس. فهل مكان ركن السيارة دليل الى حقيقة ما؟ جواب، يمكن أن تكون قد تركت هناك لتوجيه الأنظار الى المكان الخاطئ. لكن، لماذا استبعاد طرف لبناني من حادثة الإختطاف؟ جواب، لو كان طرفاً لبنانياً لكان عمل على تصفيته، في أرضه، كما حصل مع الياس الحصروني ولقمان سليم. تحاليل واستنتاجات. لكن، منذ اللحظات الأولى أيقن الجميع أن “دولتنا” تعرف الكثير وتسكت عن الكثير الكثير… اللهمّ أن لا يُصار الى طمس الحقيقة في القضية كما في سالفاتها.
تدخّل جعجع
التفاصيل تشير الى أن باسكال كان مراقباً قبل اختطافه. كان معه في السيارة شخص نزل من السيارة. بعدها جرى اتصال بينه وبين رئيس مركز القوات اللبنانية في عمشيت. كان يتكلم معه في تلك الأثناء. تكلما نحو ثلث ساعة وبقي الهاتف مفتوحاً نحو أربعين ثانية بعدها.
يا عذرا. كم سمعت العذراء هذا الدعاء في اليومين الماضيين باسم باسكال سليمان. البلد بدا على كفّ عفريت. و”دقّ الخطر” مجدداً على الأبواب. من يتابعون الملف أكدوا انه لولا إيعاز الدكتور سمير جعجع ونزوله ليلة الحادثة الى مستيتا لكانت الأمور تدهورت أمنيا. الناس ما عادوا قادرين على الإحتمال. السلاح الفالت في أيدي حزب الله يدفع الناس الى الظنّ المباشر به. لكن، هل يمكن إستبعاده كلياً؟ لا شيء ثابت. قد يكون عناصر من الحزب سهلوا العملية وقد لا يكون أحد من هؤلاء على علم. لكن، ما حدث يشرّع الباب واسعاً أمام كل ما نشهده من تتالي أحداث تغيب عنها القوى الأمنية وتفتقر الى الأمن الإستباقي والى تتبع ما يلي من فلتان. فهل يعرف أحد إلام انتهى ملف رمزي عيراني؟ ملف يستمر فارغاً. هل يعرف أحد إلام آلت إليه التحقيقات في قتل الياس الحصروني؟ الملف يستمرّ فارغاً. وماذا عن ملف لقمان سليم وجوزف صادر وبيار بولس…؟ ما كان ملفتاً ان الاسلوب كان واحداً. نفس السيناريو تقريباً على أمل أن تكون نهاية ملف الشاب باسكال مختلفة.
من خطف باسكال سليمان؟ خاطفوه أخذوه من منطقته، من بقعة جغرافية هي pure مسيحيّة. والمسألة التي يفترض أن تطرح بالتوازي مع الحادثة: من لديه كل هذه القدرة على تنفيذ عمليات من هذا النوع، تحت عين الشمس، والإنتقال من مكان الى مكان آخر، من قلب البلد الى الحدود، الى ما بعد الحدود، من دون أن يصادف أيّ حاجز أمني؟ البلد فالت؟ نعرف. لكن، إذا كانت قضية من هذا النوع، ضجّ بها البلد وأهله – ويفترض أن القوى الأمنية عرفت بها منذ اللحظات الأولى – نجح فاعلوها في قطع المسافات من دون لا أحم ولا دستور. فماذا عن الخطف والتنكيل والموت اليومي لأفرادٍ أصواتهم خافتة؟ أمرٌ آخر طُرح: هل المنطقة التي يحرس حدودها ثلاثة قديسين: شربل ورفقا والحرديني أصبحت مباحة، سهلة الخرق، الى هذه الدرجة؟
لا، القوات اللبنانية لن تسكت بعد اليوم. هي عضّت على الجرح مراراً تاركة الأمر الى القوى الأمنية. أخطأت؟ لا، هي آمنت بأن لا حلّ خارج الدولة.
قضية وطنية
تقدم الوقت أكثر. غابت الشمس من جديد على غموض. مضى على اختطاف باسكال أكثر من 24 ساعة. الإشاعات تستمرّ: هو حيّ. أطلق سراحه. أصبح في المستشفى. عاد الى أسرته. إنه في معراب. تسريبات مخابراتية مفبركة. لكن، في هذا كله، بقي ردّ القوات ثابتاً: “التلفيقات كثيرة. لكن، بالنسبة لنا لا ولن نصدّق شيئاً الى حين نرى باسكال بالعين المجردة”. لكن، في الحالات العادية، يفقد الناس الأمل بعودة مخطوف وظهور مختفٍ بعد أكثر من 24 ساعة؟ جواب: “باسكال سليمان أصبح قضية وطنية وما بعد حادثة إختطافه لن يكون كما قبلها. سيعود باسكال إلا إذا أراد الخاطف أن يذهب بالبلد الى الفتنة الكبيرة. فليعد باسكال سالماً وإلا البلد ذاهب الى أمر كبير”.
التصعيد سيزيد. أين باسكال؟ إنها القضيّة الأكثر غموضاً. هناك من قال إن عصابة سرقة سيارات سورية فعلت ذلك. فهل هذا ضحك على الذقون؟ هل نسي المذنبون أمر السيارة وأخذوا راكبها؟ وهناك من قال إن باسكال سُلّم من عصابة الى عصابة ثانية الى عصابة ثالثة حتى أصبح عند الحدود، في بلدة القصر الحدودية مع سوريا، ودولتنا تعمل – مع السلطات الأمنية السورية – على استعادة باسكال.
أمنياً، توقيفات جديدة لأفرادٍ سوريين. لكن، كيف لهؤلاء أن يسرحوا ويمرحوا من دون «أيدٍ داخلية» مساندة؟ في كلِ حال، في الإنتظار، هناك من ذكرنا باسم: أنطوان داغر. كان مصرفياً. هو كان على الأرجح زميلاً له في بنك بيبلوس (مدير الأخلاقيات وإدارة مخاطر الإحتيال ومكافحة تبييض الأموال والإرهاب). وجد داغر في حزيران عام 2020 مقتولاً في مرآب منزله في الحازمية. وقضيته – أيضا – أقفلت. فهل يمكن أن تكون قضية إختطاف باسكال تتمة؟ ما دامت الدولة ساكتة صامتة فالتحليلات ستستمر كثيرة.
في هذا الليل، هل سيستعيد باسكال حريته؟ قولوا الله. يا عدرا. عائلته، رفاقه، محبوه في الإنتظار. سيشرب الجميع نخبه. لكن، بعد أن تهدأ الأمور- وقبل أن ينشغل الجميع في مستجد آخر ما – يفترض أن يسأل اللبنانيون- وبإلحاح – وزير الداخلية: ماذا عن أمن وأمان اللبنانيين؟ وماذا يضمن أن لا تتكرر قصة الشاب باسكال سليمان مع أي شخص آخر؟
…وقبل أن نضع نقطة على آخر سطر، ها قد وُجِد باسكال مقتولاً. قُتِل الشاب الآدمي فهل يموت سرّ الخاطفين معه؟ يا ألله على كل هذه العبثية في بلد مُنهك مشلّع وأشبه بقبر كبير.