بشار الأسد في دائرة الاتهام والتوقيف القضائي الفرنسي… ما هي الأبعاد والاستنتاجات؟!

bachar

تطورٌ مهمٌ وفريدٌ من نوعه سجّلته الساعات الماضية في فرنسا، وهو سابقةٌ تاريخيةٌ في مسيرة القضاء الدولي في حق رؤساء ومسؤولين على رأس عملهم وحكمهم، فقد صدّقت محكمة الاستئناف في باريس على مذكرة توقيف صادرة عن قاضي التحقيق في حق رئيس النظام السوري بشار الأسد بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من خلال الهجمات الكيميائية القاتلة التي وقعت في شهر آب من العام 2013 واستهدفت غوطتي دمشق.

  • قرارٌ قابلٌ للطعن ولكن…

القرار القضائي الفرنسي رفضَ طلب مكتب المدّعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب بإلغاء مذكرة التوقيف بسبب الحصانة الشخصية للرؤساء أثناء ممارستهم السلطة، من هنا فإن هذه السابقة القضائية، وبغضّ النظر عن أبعادها السياسية التي سنتطرّقُ اليها في سياق هذا المقال، خلقت اجتهاداً قضائياً جديداً دحضَ ما استقرَّ عليه الاجتهاد الدولي من حصر الحصانة لرؤساء الدول أثناء ممارستهم سلطاتهم بالهيئات القضائية الدولية وليس محاكم الدول الأجنبية، علماً أن هذه المذكرة القضائية الفرنسية بالتوقيف والاعتقال قابلة للطعن أمام محكمة التمييز الفرنسية من خلال استئنافٍ يُقدّمُ أمامها، مع الإشارة الى أن محكمة التمييز هي أعلى سلطة قضائية في الجمهورية الفرنسية.

واللافت أيضاً أن محكمة الاستئناف الفرنسية ذاتها أكّدت على مذكرة توقيف ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري وإثنين من كبار المسؤولين العسكريين للنظام هما العميد غسان عباس مدير الفرع 450 وبسام الحسن ضابط الاتصال بين القصر الجمهوري السوري ومركز البحوث العلمية.

  • ملاحظات واستنتاجات حول القرار القضائي الفرنسي

إذا استعرضنا الأبعاد والتداعيات لمذكرة توقيف واعتقال الرئيس السوري، يمكن استخلاص ما يلي:

-أولاً: إن القرار القضائي الفرنسي ظاهرةٌ فريدة من نوعها تحدثُ لأول مرة في التاريخ حيث يعمدُ قضاءُ دولةٍ أجنبية على إصدار قرار توقيف واعتقال في حق رئيس دولة أخرى لا يزال في سدّة الرئاسة، وفي هذا السياق نشيرُ الى أن القاعدة القانونية التي لطالما حكمت الوضع القانوني لرؤساء الدول أعفتهم من الملاحقة طوال فترة حكمهم وفق ما يُعرف “بالحصانة القانونية”، وقد شكّلت هذه الحصانة على الدوام عائقاً كبيراً أمام ملاحقة ومحاكمة الأعمال الإجرامية لرؤساء دول وأنظمة، من هنا فإن هذا الاجتهاد القضائي الفرنسي الجديد قَلبَ الطاولة على مبدأ الحصانة القانونية للرؤساء وأخضعهم للمساءلة والملاحقة القضائية وهم لا يزالون على سدة السلطة.

  • مرحلةٌ جديدةٌ من النظام القضائي العالمي
  • ثانياً: إن هذا الاجتهاد القضائي جاء بالتزامن مع ملاحقاتٍ قضائية تقوم بها محكمة العدل الدولية في جنوب أفريقيا في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت على خلفية المجازر وجرائم الحرب التي ارتكباها في قطاع غزّة، والتي وصفت أيضاً “بجرائم ضد الإنسانية”.

وبالتالي هذا التزامن القضائي مع القرار القضائي الفرنسي في حق بشار الأسد يؤشر الى مرحلة جديدة في النظام القضائي العالمي يُنبىء بتغييرات جذرية في النظام القانوني والقضائي لا سيما وأن ثمّة مواقف قضائية دولية ومذكرات اعتقال في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خلفية حرب أوكرانيا، ولا ننسى ظاهرة مذكرة اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي، وإن تمكّن من خرقها في رحلات رسمية قبل الانقلاب عليه الى بعض الدول، إلا أنها بقيت سيفاً مُصلَتاً يضيّقُ عليه تحرّكاته وأسفاره الرسمية الى الكثير من الدول المرتبطة باتفاقات مع الانتربول الدولي.

  • وصمة عار على جبين الأسد

-ثالثاً: الخطوة القضائية الفرنسية، على أهميتها وفرادتها وتأريخها، تبقى حتى الآن رمزية من الناحية العملانية، إذ إنها خطوةٌ قضائية جبارة بمفاعيل معنوية سياسية ضخمة لكن بمفاعيل تنفيذية متواضعة لا سيما وأن بإمكان محكمة التمييز الفرنسية إبطال المذكرة، إلا أن الأمر الأساسي والمهم في هذا السياق هو أن الرئيس السوري وحتى إشعار آخر متهمٌ وهو موضِعُ ملاحقةٍ دوليةٍ من خلال مذكرة القضاء الفرنسي عبر الانتربول، ومَن يتعاطى معه من دول سيتعاطى معه على خلفية أنه شخصٌ مطلوبٌ للعدالة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ضد شعبه، حتى لو أبطلت محكمة التمييز الفرنسية (وهي قد لا تفعل) المذكرة إلا أن “وصمة التهمة” ستبقى على جبين الأسد مع ما يستتبعُ ذلك من تداعياتٍ على تعاطي الدول معه، ولا سيما العربية منها، وهي المعنية أكثر من دول أخرى برفض وإدانة الفظاعات التي ارتكبها نظامه في حق شعبٍ عربيٍ مسلمٍ سنّي في سوريا.

من هنا، فإن هذه المذكرة القضائية الفرنسية قد تُعقّدُ عملية التقارب العربي- الخليجي مع الأسد وتعويم نظامه مرحلياً خصوصاً أن الأخير لا يزال حتى الآن يتهرّب من تنفيذ بنود التقارب العربي معه، ونكوله المستمر بالتزاماته ووعوده له، لا بل مضاعفة تصدير الكابتاغون والسلاح والإرهاب الى دول الجوار وفي طليعتها الأردن الشقيق.

  • الرئيس المطلوب من العدالة الدولية

بشار الأسد اذاً باتَ وحتى إشعار آخر مطلوباً من عدالة أجنبية وفي حقه مذكرة توقيف واعتقال، والدول كافة الموقِّعة على اتفاقيات الانتربول مجبرةٌ على تسليمه إن حطَّ على أراضيها، الأمر الذي سيضيّقُ عليه أكثر ويخنقُ حرية تحرّكاته وسفراته وتواصله مع الدول، بالتزامن مع الإحراج الكبير الذي يشكّله لتلك الدول في حال استمرار التعاطي معه واستقباله.
وليس من الصدفة في شيء أن يتساوى الأسد مع نتنياهو في الملاحقات القضائية الدولية، وهما وجهان لعملة واحدة يلفهمها الخزي والعار تجاه شعبيهما والشعب الفلسطيني المنكوب في غزّة.

إنه زمنُ التغيّرات الكبرى في المنطقة والعالم، زمنُ تغيّر النظام الدولي والإقليمي، وحتى القضائي، فهل بدأت تسقطُ تباعاً الحصانات القضائية عن الرؤساء والطغاة؟

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: