بقلم المحامي جاد طعمه
من المتعارف عليه أن معظم القطاعات الخدماتية في لبنان إنطلقت بعد منح القطاع الخاص عقود إمتياز، حتى إذا ما شارفت هذه العقود على الإنتهاء وتسّلمت الدولة قطاعات عدة بدأت الأزمات تتناسل والهدر يتفاقم، ومردّ ذلك الى أن المصالح الخاصة كانت تعلو دائماً على المصالح العامة، وأن الدولة بشكل عام هي "مدير سيئ" نظراً الى البيروقراطية الإدارية السائدة ومحاولات تحقيق السمسرات التي تبدأ من أصغر موظف حتى رأس الهرم الإداري.جدير بالذكر أن أول رؤية حكومية طرحت مسألة الخصخصة تمت في حكومة الرئيس عمر كرامي حين قرر مجلس الوزراء بتاريخ ١١ آذار ١٩٩٢ تكليف لجنة خبراء وضع تصورٍ عامٍ لخطة عمل إقتصادية مالية تهدف الى معالجة الضغوط التي يتعرض لها الإقتصاد الوطني، وتقديم مقترحات لتحقيق الإستقرار التدريجي وتدعيم النهوض الإقتصادي.تقرير تلك اللجنة خلُص الى ضرورة خصخصة بعض الأنشطة العائدة لقطاع الدولة مثل خدمات الإتصالات السلكية واللاسلكية وجمع النفايات وقطاع النقل المشترك كما قطاع الطاقة، وذلك بسبب عدم توفر الشروط المؤآتية لإجراء إصلاح إداري حقيقي، ولتشجيع إجتذاب المستثمرين من الداخل والخارج، ما يشكّل أداة لتحريك الدورة الإقتصادية وتحقيق معدلات النمو.في العام نفسه، أوصى خبراء في البنك الدولي بأن يتولى القطاع الخاص تشغيل بعض المشاريع التي يتم تأهيلها وصيانتها، وأن يلعب دوراً رئيساً في تطوير البنى التحتية في المرحلة الأولى من خطة إعادة الإعمار.يومها كان من شأن توقيع عقود ال B.O.T إدخال أموال الى الخزينة العامة لأن هذه القطاعات الخدماتية كان يُتوقع لها النجاح بعد طيّ صفحة الحرب الأهلية في حال تمت إدارتها بشكل إحترافي، لكن أعضاء النادي السياسي اللبناني رفضوا هذه الطروحات الإقتصادية على اعتبار أنها تمس بالسيادة الوطنية، وأن البنك الدولي يهدف الى "الهيمنة" على القرار السياسي للجمهورية اللبنانية، كون الدول العظمى هي التي تتحكم بقراراته وسياساته وتوصياته.بعد مرور كل هذا الوقت، لا تزال فضائح صفقات التلزيمات تتوالى فصولاً، علماً بأن قطاعات عدة شكّلت أداة لتراكم ثروات الطاقم السياسي في لبنان، بدءاً من قطاع النفايات (معالجة وطمر) الى قطاع الإتصالات الذي كان الأغلى عالمياً والأسوأ في تقديم الخدمات، مروراً بقطاع النقل المشترك الذي اختفى وإندثر، أما قطاع الطاقة فحدّث ولا حرج عن هدر فاق الثلاثين مليار دولار أميركي والنتيجة اليوم هي "صفر كهرباء".فهل مَن يحاسب أعضاء النادي السياسي اللبناني على هذه الإخفاقات المتتالية؟ وهل نعي اليوم أن القرار اللبناني بكامله بات في عهدة البنك الدولي الذي يشكّل خشبة النجاة الوحيدة للإقتصاد الوطني؟ وهل ندرك بأننا قد نُضطر الى الإلتحاق بركب دول الخليج في التطبيع فقط لضمان البقاء على قيد الحياة؟ وخير دليل ما حصل في قضية معالجة الحدود البحرية جنوباً والرضوخ للتنازل عن الخط رقم ٢٩ ! لا بد من جردة حساب شعبية، ولا بد من أن يتحمل المسؤولية مَن كانوا في موقع القرار، هؤلاء الذين يسعى بعضهم اليوم لإستعادة ثقة الناس خلال الإنتخابات النيابية المقبلة، فيما يسعى البعض الآخر الى حزم حقائبه عسى أن يجد مواقع أخرى في العالم ينفذ فيها مشاريعه المشبوهة التي ترتكز الى النهب والسمسرات.