عمر قانون الإيجارات من عمر الدولة اللبنانية، وولد أساسه قبل استقلال لبنان طبقاً للقوانين الفرنسية. لكن قوانين العالم تعدلت وتبدلت عشرات المرات، فيما قانوننا “العريق” غريق في بحر الشعبويات والمزايدات التي تبيع الفقراء أوهام حماية مصالحهم وتأبيد إقامتهم في منازل ومحال مستأجرة وبعضها منذ ما يقرب من قرن. أما النتيجة، فمالك لم يستفد من ملكه، ومستأجر انتهى به الأمر بعد عشرات السنين دون ملك.
هي باختزال ليست أزمة قوانين، فالرغبة عند المعنيين بالملفّ موجودة، لكن المعضلة الأساسية تبقى في مركز القرار ولدى السلطة التي كلما فتح أحدهم باب التغيير والتطوير كانت مكوناتها وأطرافها تتعاون وتتحالف فتستولد ما يستدعي التأجيل أو نسف المشروع من بداياته. وهذا ما حصل مع قانون تعديل الإيجارات غير السكنية، ليس إلا لأن نواطير القانون والدستور كانوا ولا يزالون للأسف في سبات عميق.
بعد نحو 4 أشهر على إقرار مجلس النواب قانون إيجارات الأماكن غير السكنية، وبعدما قرر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عدم نشر 3 قوانين في الجريدة الرسمية من بينها القانون المتعلق بتعديل قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية، معللاً ذلك “لتتسنى إعادة عرض القرار المتصل بإصدارها مجدداً على أول جلسة لمجلس الوزراء للبحث في الخيارات الدستورية المُتاحة بشأنها” أصدر مجلس شورى الدولة برئاسة القاضي فادي الياس وعضوية القاضيين كارل عيراني ومليكة منصور، قراراً بوقف تنفيذ مرسوم رد القانون المتعلق بإيجارات الأماكن غير السكنية. يأتي ذلك بناءً على 3 شكاوى أمام مجلس شورى الدولة ضد القرار من النائبة بولا يعقوبيان، ونقابة المالكين، وتجمّع مالكي الأبنية المؤجرة، خصوصاً بعد إقرار جميع القوانين التي أحالها رئيس مجلس النواب نبيه بري الى الحكومة التي بدورها وافقت على إصدارها في 19 كانون الأول، وتالياً “لا يحق لرئيس الحكومة أن يتراجع عن هذا الإصدار”.
وبناءً على ملاحظات الحكومة، أحال رئيس مجلس النواب نبيه بري قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية إلى لجنة الإدارة والعدل لمناقشته مجدداً، ولكن بعد قرار مجلس شورى الدولة، سقطت صلاحية اللجنة في مناقشته، لأن القرار قضى بوقف تنفيذ ردّ القانون الى مجلس النواب.
وكان رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان قد دعا المالكين والمستأجرين ولجان التجار الى جلسة حوار، واقترح بعض التعديلات التي “تلقفتها نقابة المالكين بمرونة”، وفق ما تؤكد مصادرها، ووافقت عليها في إطار التسهيلات لمعالجة الملفّ على اعتبار أن المالكين يعانون أوضاعاً صعبة، فيما يجني المستأجرون من التجار وغيرهم من شاغلي عقارات المؤسسات المؤجرة أرباحاً طائلة في مقابل إيجارات تحوّلت بعد التضخم رمزية جداً”.
المفاوضات بين أطراف القضية تركزت على ثلاث نقاط هي: بدل المثل، عدد سنوات التمديد، والخلوّ. وطرح عدوان خفض بدل المثل الى 6% ورفع التمديد إلى 5 سنوات، وزيادة عامين إضافيين لمن دفع الخلو خلال السنوات العشر الأخيرة. وحصل على إجابات خطية عن هذه النقاط من الجميع.
القانون انتصار للمالكين؟
القانون الجديد، اعتُبر بمثابة انتصار للمالكين، إذ بموجبه تم تحرير عقود الإيجارات غير السكنية القديمة بعد 4 سنوات فقط، على أن يتم تصحيح بدلات الإيجارات من السنة الأولى، من خلال رفعها بمعدل 25%، من بدل المثل، وهو ما يوازي حسب المتعارف عليه 8% من قيمة المأجور، ثم رفعها بمعدّل 50% في السنة الثانية، ثم 100% في السنة الثالثة والرابعة. وإن لم يرغب المالك في استمرار المستأجر، يمكنه وفق القانون أن يتنازل عن حقه بالزيادات، على أن يتسلّم المأجور بعد عامين من صدور القانون. وتالياً، يستمر المستأجر بدفع بدلات الإيجار ذاتها التي يدفعها اليوم، ولكنه ملزم بإخلاء المأجور بعد سنتين.
رئيس نقابة المالكين باتريك رزق الله أكد لـ”النهار” أنه “بعد استشارة الفريق القانوني الذي تقدّم بالمراجعة أمام مجلس شورى الدولة، يرى أن هذا القرار القضائي شبه نهائي ويبت بالمراجعة وهو أكثر من قرار إعدادي، لكون المجلس توسّع في تعليل أسباب اتخاذه قرار وقف تنفيذ مرسوم رد قانون الإيجارات غير السكنية إلى مجلس النواب، وتطرّق إلى مسألة عدم صلاحية حكومة تصريف الأعمال بردّ القوانين باعتبارها صلاحية محفوظة لرئيس الجمهورية وفق الدستور.
وطالب رزق الله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بنشر القانون على نحو فوري وهو برأينا ملزم بذلك وإلا تعرّض للمساءلة الشخصية. وبرأيه فإن “مهمة مراقبة دستورية أعمال الحكومة تقع في صلب مهام مجلس شورى الدولة، وإلا تصبح الصلاحيات مستباحة بشكل مطلق وكامل”، معتبراً أن “قرارات الحكومة في الفترة الأخيرة تخرج عن إطار الأعمال الحكومية، لتتعدّى على عملية التشريع وعلى صلاحيات رئيس الجمهورية، وتنصّب نفسها مرجعية مطلقة الصلاحيات، وهذا سلوك غير مقبول إطلاقاً لم تقم به أي حكومة تصريف أعمال”.
فالقرار وفق ما قال، يأتي تتويجاً لمواقف الكتل النيابية التي اعتبرت خطوة الرئيس ميقاتي مخالفة للدستور، ولا سيما بعد موافقة مجلس الوزراء على إقرار القانون وتحويله إلى النشر في جلسة 19 كانون الأول، ليعود ميقاتي، وبقرار شخصي فردي، بطرح الموضوع على مجلس الوزراء، علماً بأنه حتى بوجود رئيس الجمهورية، ليس في الدستور ما يسمح له بالعودة عن الإقرار، فيكف إذن يحق لحكومة تصريف الأعمال أن تفعل ذلك؟!
كذلك، يأتي القرار منسجماً مع تصويت اللجان النيابية المشتركة، باعتبار خطوة ميقاتي غير دستورية، وتصويتها إيجاباً على ردّ القوانين الثلاثة، الإيجارات وقانون مساعدة صندوق تعويضات الأساتذة، وقانون أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة، إلى مجلس الوزراء لنشرها.
وإن كان قرار الشورى قراراً إعدادياً أو أولياً ريثما يُبت الطعن بصورة نهائية، فإن القرار القضائي يحمل بعدين وفق رزق الله. الأول يتعلق بإنصاف المالكين القدامى، لأن القانون الجديد يرفع عنا ظلماً متراكماً منذ 40 عاماً، إذ “لا يجوز أن يدفع التجار الذين يمارسون أعمالهم التجارية ويحققون أرباحاً، دولارين وثلاثة دولارات شهرياً للمالكين، كذلك يحدّ من الضغط والابتزاز الذي نتعرّض له من لجان التجار، الذين استفادوا سنوات من بدلات الإيجار شبه المجانية، ليأتوا اليوم بتجرد من أي ضمير وإنسانية، فيحاولوا منع تحقيق العدالة ومصادرة الأملاك بالقوة”. أما البعد الثاني فدستوري “يحمل رسالة قوية إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بوجوب التوقف عن استباحة الدستور والتوقف عن التعدي على صلاحيات رئيس الجمهورية”. أمام هذا الواقع، يطالب رزق الله “الكتل النيابية والأحزاب السياسية الفاعلة بإلزام ميقاتي بنشر القانون، كما نطالب الوزراء بألا يرضوا بعد اليوم بما يحصل من تعديات على الدستور”.
مرقص: قرار ليس نهائياً
هل يمكن اعتبار القانون نافذاً بعد قرار مجلس الشورى؟ المحامي الدكتور بول مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ، يقول إن قرار وقف التنفيذ هو قرار إعدادي ملزم، ولكنه ليس قراراً نهائياً فلا يتمتع بقوة القضية المقضية للقرار النهائي الذي سيبت بأساس المراجعة، بحيث يمكن الرجوع عنه إذا طلبت الدولة ذلك ممثلة بهيئة القضايا في وزارة العدل في حال وجود معطيات جديدة تقضي بذلك في الملف الإداري الذي لم تكن قد سلمته الدولة لمجلس الشورى والذي يتضمن حيثيات وحذافير القرار الحكومي المطعون به.
ووفق المادة 93 من نظام مجلس الشورى، على الإدارة أن تستنتج من الحالة القانونية التي وصفها المجلس في قراره، بأن عليها إصدار القانون ونشره.
ووفق مرقص فإنه “وإن كان قرار مجلس الشورى ملزماً لكن يمكن الرجوع عنه”، مرجحاً، عملياً، “أن تتريّث الإدارة في التنفيذ كما يحصل في مرات عدة لحين إعادة النظر في قرار وقف التنفيذ أو صدور القرار النهائي”. واعتبر أن “القرار النهائي بأساس القضية، يتطلب عادة شهوراً عدة بين إعداد تقرير المستشار وإبداء مطالعة مفوض الحكومة، ثم على الهيئة الحاكمة أن تبطل أو ترد المراجعة حتى لو كان صدر قرار وقف التنفيذ. فقرار وقف التنفيذ يُبنى على أسباب جدية ومهمة وتحقق الضرر البالغ وفق المادة 77 من نظام مجلس الشورى. ولكن ليس له قوة القضية المحكوم بها وعادة ما لا يأتي معللاً تعليلاً وافياً، ولا ينسحب تالياً بالضرورة على القرار النهائي للمجلس الذي قد يذهب بالاتجاه عينه أو باتجاه معاكس خصوصاً أن المجلس، كما لو ذهب إلى رد المراجعة مستقبلاً، قد يستند الى أن موضوع المراجعة يدخل ضمن الأعمال الحكومية التي تختص بالعلاقة بين مجلسي النواب والوزراء وتخرج عن رقابة مجلس الشورى أسوة بالأعمال الديبلوماسية أو الأعمال الحربية.