في مقالات سابقة تناولنا فيها الأهداف الاستراتيجية الكامنة وراء الحشد العسكري الأميركي والأطلسي غير المسبوق في المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، والتي نعود ونكرّر باختصار أنه لم يحصل ولم يتشكل دعم لإسرائيل بقدر ما هو حاصل لكبح جماح الصين وروسيا في المنطقة، وتحديداً الروس المطلوب خروجهم من سوريا.
مرحلة مواجهة دولية على وقع تصعيد الحرب في غزة
وفي ظل هذه المعادلة الإقليمية الدولية، افتُتحت مرحلة المواجهة الدولية في المنطقة على وقع تصعيد الحرب في غزة وتصعيد الحوثيين لعملياتهم ضد الملاحة الدولية في باب المندِب والبحر الأحمر خصوصاً في الساعات الماضية، حيث تصاعد بشكل كبير استهداف السفن في الممرات الدولية واضطرار البحرية الأميركية الى التدخّل عسكرياً لصدّ الصواريخ الباليستية المنطلِقة من مناطق سيطرة الحوثيين باتجاه السفن والملاحة التجارية الدولية وحماية تلك السفن.
من الأُحادية الى التعدّدية القطبية
المعروف استراتيجياً مدى حساسية الممرات والمضائق الدولية على صعيد التجارة الدولية، وهي خط أحمر قد تندلع بسببها حرب عالمية طاحنة في أي لحظة، فكيف اذا ترافق هذا التهديد مع قرار روسيا بالتشبّث بوجودها في المنطقة انطلاقاً من نظرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المنهَك في حرب أوكرانيا بضرورة تحويل نظام المنطقة من الأُحادية القطبية الى التعدّدية القطبية التي يُصرّ عليها مع الصينيين في إدارة شؤون العالم، وكسر الأميركي وحصرية قطبيته في واحدة من أكثر مناطق العالم ثراءً بالموارد والثروات النفطية والغازية ألا وهي الشرق الأوسط.
روسيا تريد إلهاء أميركا عن ملف سوريا
في خضم كل هذه المعطيات، تأتي زيارة الرئيس بوتين الى المملكة العربية السعودية، زعيمة المنطقة والعالمَين العربي والإسلامي، في توقيت ليس ببريء إذ إن المملكة ودول الخليج على مرمى صواريخ الحوثي وتهديده المستمر والمتصاعد، والذي لا يزال حتى الآن يُجانب استهداف المملكة أو أي دولة خليجية أخرى، تلك الزيارة التي يبدو أن الرئيس الروسي يريد من خلالها تأكيد ثلاثة أمور : – الأول : تثبيت نظريته بالتعدّدية القطبية في العالم وفي الصراعات العالمية والنفوذ الدولي بما فيه في الشرق الأوسط – الثاني : الطلب من الرياض عدم الانجرار وراء الإغواء الأميركي لها وتجديد العرض الروسي بوجوب تطوير التحالفات الاستراتيجية بين الخليج وروسيا والصين، ولو من باب استمرار التبادلات التجارية بين البلدين وتطويرها وتوسيعها الى أكثر من تجاري، وصولاً الى التعاون العسكري والاستراتيجي والأمني . – الثالث : بحث بوتين عن السبل الآيلة الى إطالة عمر حرب غزة لإلهاء الأميركي عن الملف السوري حيث وجود روسيا فيها يشكّل حجر زاوية النفوذ الروسي في المنطقة، لا سيما وأن البحر المتوسط المقفَل حالياً من الناحية العسكرية مقفلٌ في وجه البحرية الروسية التي تتخذ من طرطوس قاعدة عسكرية متقدّمة على المياه الدافئة، وبوتين لا يريد خسارة هذا المنفذ الاستراتيجي له على المياه الدافئة.
المنطقة في لحظة تصعيد دولي وإقليمي مسرحه غزة
من هنا، الأرجّح أن روسيا تريد إعادة ضبط إيقاع علاقاتها مع دول الخليج والمنطقة في مواجهة الوجود الأميركي السياسي والعسكري والأمني والاستخباراتي الضاغط عليها، وفي مواجهة القرار الأميركي بإخراج روسيا من المنطقة انطلاقاً من سوريا في لحظة تصعيد إقليمي ودولي مسرحه غزة وخلفيته دول الحدود مع إسرائيل أو ما كان يُسمّى “بدول الطوق” وبالتزامن مع تراجع إيران عن توريط نفسها مباشرة ضد الأميركيين مراعاةً لمصالحها مع واشنطن خصوصاً في ظل مسلسل المفاوضات وراء الكواليس الجارية بينهما على أكثر من ملف إقليمي ليس أقله الملف النووي.
حراك دولي يمهّد للدبلوماسية النارية
واشنطن تركّز على بوتين ووجوده في المنطقة، وهي قرّرت إخراجه في سياق حربها المفتوحة ضده من أوكرانيا الى أفريقيا والشرق الأوسط الذي عاد ليكون منطقة تجاذبات دولية، مع ما يعنيه ذلك من عودة الى مرحلة عدم الاستقرار في الثمانينيات والتسعينيات، لكن هذه المرة في ظل حراك دولي إقليمي حربي وعسكري يدعم ويمهّد للديبلوماسية الحامية والنارية. من هنا، فإن زيارة بوتين الى الرياض تندرج في سياق المواجهة الدولية المفتوحة بين القوى الكبرى دولياً في مناطق عدة مواجهة في العالم، لكن هذه المواجهة تتّسم في الشرق الأوسط بطعم خاص نتيجة تشابك العلاقات الإقليمية- الدولية من جهة، وثراء المنطقة بالنفط والغاز والثروات الطبيعية المتعدّدة.
أنصبة روسيا من ثروات سوريا
روسيا في سوريا أخذت أنصبتَها من ثروات الشعب السوري الى جانب إيران التي لم تترك مصدراً مالياً أو مرفقاً اقتصادياً أو تجارياً إلا واشترته من بشار الأسد، فهل أتت الساعة التي تريد فيها موسكو الحفاظ على أنصبتها من ثروات دول الخليج بالاتفاق والتوافق، في مقابل منع الحوثي من ضرب دول الخليج أو الاعتداء عليها ؟
الناشط الحوثي والضمانات “البوتينية”
السؤال له ما يبرّره خصوصاً وأن توقيت الزيارة مثير جداً للاستغراب، والرئيس بوتين معروف عنه أنه لا يناور عندما يريد الحصول على مكسبٍ ما، ولكن بالطبع هذا لا يعني أن الرياض مطواعة لأي طلب دولي أو إقليمي لا يكون فيه ضمان لمصالحها أولاً، لذلك نعتقد بأن الزيارة تأتي برسالة مفادها أن موسكو لا يناسبها انقضاض الأميركيين عليها وعلى مصالحها في المنطقة، وبالتالي الأفضل إبقاءها منغمسةً في وحول المواجهات بين غزة وباب المندب ومضيق هرمز كي لا تنقضّ، بعد غزة، على سوريا وتعمل على ضرب مصالح روسيا في سوريا كما هو مخطّط عندها، وبالتالي لا عجب في أن إطالة أمد الحرب في غزة قد يصبّ في صالح الرئيس بوتين، وهو بهذا المعنى قد يطلب من الرياض عدم التحرّك باتجاه إنهاء الحرب هناك أقله في الأمد المتوسط، في مقابل “ضمانات بوتينية ” من الجانب الحوثي الناشط على خط تهديد الملاحة الدولية وأمن التجارة الدولية والمملكة ودول الخليج .
تخادم المصالح الحوثية- الروسية
الرئيس بوتين قلقٌ على وضعه في سوريا، وهو يسعى لضمان عدم التعرّض لنفوذه هناك بالتزامن مع تحقيقه انتصارات ميدانية في حربه على أوكرانيا، ولذا هو يسعى الى الإمساك بكافة أوراقه في مواجهة الأميركي والأطلسي للمقايضة عليها وقت التفاوض المقبل، فهل بات الحوثي بين ليلة وضحاها يخدم مصالح الرئيس بوتين أكثر من خدمة مصالح إيران؟ وهل الصواريخ التي يُرسلها الحوثي في البحر الأحمر تهدف لإلهاء الأميركي على أكثر من جبهة لثنيه عن المضي في خططه بإخراجه من المنطقة من بوابة سوريا؟ الأمر يبدو كذلك حالياً لأن الرئيس بوتين يريد الإمساك بورقة الممرات الدولية والتبادلات التجارية من خلال الصواريخ الحوثية في عملية ابتزاز واضحة للأميركيين ودول المنطقة تقيه مرحلياً على الأقل التهديد الأميركي لمصالحه وتكرّس نظرته في التعدّدية القطبية تحت طائلة ارتفاع أسعار النفط في حال أي تهديد، الأمر الذي سيُشعل مواجهة دولية حتمية لن تُحمَد عقباها