كان ﻻفتاً في الأيام الأخيرة، ﻻ بل الساعات الأخيرة الماضية جوّ التطورات التي شهدتها المنطقة من الناقورة في جنوب لبنان بموضوع ترسيم الحدود البحرية، الى بغداد حيث تم انتخاب رئيس جديد للجمهورية ورئيس حكومة أقل ما يمكن أن يقال فيهما إنهما تكريس لليد الإيرانية عبر "الإطاريين" وجماعاتهم الموالية لإيران.
إنها لحظة إقليمية كبيرة تحمل في طياتها أكثر من حقيقة جيو سياسية وكلمة سر يمكن اختصارها بالآتي : تراجع المخطط الإيراني في المنطقة وبخاصة في الدول الأربعة التي تحتلها إيران.قبل التعمّق في التحليل، ﻻ بد من الإشارة الى أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبعيداً عن الفولكلور والمزايدات الداخلية، لم تكن سوى حصيلة توافق إرادتين : واشنطن التي تلقّفت تماماً، ورغم كل التصريحات والمواقف النارية ضد المملكة العربية السعودية، رسالة تخفيض أوبك بلاس للإنتاج بما يعني الشق السياسيي منه، والرسالة واضحة ومفادها التوقف عن دعم النظام الإيراني لأن مصلحة واشنطن هي مع العرب ﻻ مع إيران، وطهران التي تلقفت رسالة فشل اﻻتفاق النووي أقله مرحلياً ورسالة الثورة الشعبية الحاصلة في داخلها والتي يشعر نظام الملالي من خلالها أكثر من أي يوم مضى بهشاشته على الصمود لأجل طويل، خاصة في ظل تنامي اﻻستدارة الغربية ضده نتيجة إفشاله اﻻتفاق النووي بشروطه غير المنطقية.
ما يحصل في المنطقة أبعد بكثير من ترسيم منفصل من هنا وانتخابات منفصلة من هناك، إذ ان اللحظة التي تضرب أوروبا عبر حرب أوكرانيا وتضع الرئيس فلاديمير بوتين في مأزق جيو سياسي متنامٍ يوماً بعد يوم بغض النظر عن الشق العسكري الذي فيه تراجع روسي واضح، هي نفسها اللحظة التي تضرب إيران في المنطقة وتجبرها مرغمة على التراجع تحت عنوان : تهدئة الجبهات في لبنان واليمن والعراق وصوﻻً الى أفغانستان في مقابل شراء وقت أطول لنظام الملالي المتهاوي.في هذا السياق، يمكن تسجيل الآتي :
أوﻻً :ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أنهى أقله معنوياً دور سلاح حزب الله في لبنان والمنطقة، وعندما نقول معنوياً فهذا يعني أن الفلسفة "المقاوماتية" التي قامت عليها عقيدة حزب الله العسكرية، والتي على أساسها تمسك وﻻ يزال بسلاحه انتهت ليس بإرادته طبعاً بل بفعل إرغام جاءه من طهران بضرورة الإنحناء للموجة التسووية والتطبيعية الآتية على المنطقة مع إسرائيل.
ثانياً : انتخابات العراق لرئيس جمهورية جديد هو عبد اللطيف الرشيد خلفاً لبرهام صالح، وهو منتسب للحزب الديمقراطي الكردستاني ومدعوم من نوري المالكي رئيس إئتلاف دولة القانون التابع لإيران، فيما انتخب محمد شياع السوداني المدعوم من الإطار التنسيقي أي قوى إيران في العراق رئيساً جديداً للوزراء. تلك اﻻنتخابات واذا قُرأت من زاوية جيو سياسية، نجد أنها تصب في الإطار السياسي الإقليمي العام في المنطقة المتجه نحو التهدئة الإيرانية لمواكبة التطبيع الإقليمي مع إسرائيل ﻻحقاً.
ثالثاً : في اليمن ضغط غربي على إيران والحوثيين من أجل التوقّف عن مهاجمة الرياض والإمارات العربية بالصواريخ والمسيّرات بعدما ثَبُت للغرب، نتيجة قرار تخفيض إنتاج النفط، التأثير المدمّر على الأسواق الغربية أن حصل أي هجوم جديد على المملكة، لأن الغرب لم يعد قادراً على تحمّل أية تبعات إقتصادية وأي دوﻻر إضافي واحد على سعر البرميل، وهذا تحديداً من ضمن خلفيات الغضب الأميركي على الرياض بعد قرار أوبك بلاس.إيران بطبيعة الحال ﻻ تستطيع اﻻ الإستجابة للضغط الغربي على الحوثيين، وبالتالي أيضاً في اليمن توجه الى التهدئة استعداداً لمرحلة جديدة من التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، لا سيما وأن رسالة النظام الإيراني واضحة للأميركيين والغرب والإسرائيليين : "إن تنازلت لكم استمروا في دعم وجودي المهدّد من الداخل."
رابعاً : تكتيكياً يبدو المشهد في المنطقة انتصارات إيرانية خاصة في لبنان مع الترسيم، وفي العراق مع تركيبة إيرانية في السلطة اﻻ أن ما هو أبعد من التكتيك هو اﻻستراتيجيا التي تقول بإن المنطقة مقبلة على التطبيع مع إسرائيل، ولذا يجب أن تبدأ إيران بالتطبيع، ومن أجل ذلك عليها إعداد أجواء في مناطق نفوذها تكون أرضية جاهزة لتقبّل التطبيع عبر خطوات من هنا وهناك، كم مثل لبنان حيث شاء من شاء وأبى من أبى ولطمَ مَن لطمً، بدأ مسيرة تطبيعه مع إسرائيل عبر اتفاق الترسيم من قبل حكومة حزب الله وعهد حزب الله.وفي العراق، حكومة ورئيس جاهزان للتطبيع المقبل، وكذلك اليمن وحتى بشار الأسد في سوريا الموضوع منذ فترة في أجواء إستعدادية لتطبيع سوريا مع إسرائيل متى ما بدأت إيران خطواتها الأولى نحو هذا التطبيع.سلسلة الهدنات تتالت بظرف أيام، سواء في لبنان مع الترسيم أو في العراق مع حكومة وسلطة إيرانية مطواعة، أو اليمن حيث الضغط لإسكات الحرب وإطفاء آثارها على الخليج.الحوثيون في اليمن أمام هدنة مقبلة وأمام خيار واحد ﻻ ثاني له : اﻻتفاق إما مع الشرعية اليمنية وإما مع المملكة العربية السعودية أو مع التحالف العربي،فتلك الحكومات "المقاومجية" الإيرانية في لبنان واليمن والعراق والتي لطالما اتصفت زوراً بمحور مقاومة إسرائيل يتحوّل فعلاً الى محور "مقاولة" ومهادنة تفاوض إسرائيل وتعترف بكونها جزءاً من المنطقة تحت رعاية أميركية واضحة ومباشرة.لن يكتمل أي تغيير في المنطقة وبخاصة في دول محور المقاولة كلبنان واليمن والعراق وتحديداً في موضوع التطبيع مع إسرائيل قبل العام ٢٠٢٥، فلن يتغير محور إيران قبل هذا العام مع بدء التغيير داخل إيران نفسها وتغيّر نظامها كلياً أو جزئياً، ولذا فإن أذرعه في المنطقة لن تختفي قبل اختفاء النظام الإيراني أو تحوّله، اﻻ أن الأرضية الإقليمية الإيرانية تتجهز لتلقّف ساعة حسم التطبيع سواء داخل إيران أو مع أذرعها في المنطقة.البوصلة متجهة اذاُ الى التهدئة بحيث لن تكون هناك مواجهة مع إسرائيل في لبنان وﻻ في إربيل مع بغداد وﻻ مع الحوثيين ضد الرياض، بما يمكن اعتبار الأمر بمثابة إلقاء سلاح وتراجع عن منطق المواجهة التي كانت تقودها إيران.إيران ذاهبة ﻻ محال الى التطبيع، ولذا ﻻ بد من تهيئة قواعدها وأذرعها في المنطقة رويداً رويداً من خلال تفاهمات من هنا وحكومات "الحمل الثقيل" من هناك وإطالة أمد الهدنة من هنالك ...
لبننة حزب الله بدأت من الآن وتلك اللبننة تعني إنهاء الدور المعنوي لسلاحه تمهيداً لإنهاء دوره المادي في "لحظة طهران التطبيعية" كذلك يتعرقن ) من العراق ( حزب الدعوة الإيراني وتوابعه في العراق )، كما تتم في اليمن إعادة الحوثي الى المشروع اليمني وأنهاء دور بشار الأسد الخادم للمحور الإيراني الروسي في المنطقة.إيران حالياً مطالبة بالإنسحاب من سوريا ووقف التدخّل في اليمن وتوقّف طهران عن دعم الجماعات الإرهابية كحزب الله في لبنان والحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق وسواهم من جهاد إسلامي وحماس والقاعدة وداعش، ومنع تهديد المملكة العربية السعودية وإسرائيل ...في طهران إنحدار النظام شعبياً، وفي المنطقة إنحدار أذرع إيران في مبررات وجودها ... والجديد بين الإثنين صرف إدارة جو بايدن تركيزها على اﻻتفاق النووي، وانتقال التركيز على مظاهرات إيران لدعمها وقد أعلنتها المتحدثة بأسم الخارجية الأميركية بالأمس بكل صراحة، واصفةً مطالب إيران الأخيرة في المفاوضات النووية بغير الواقعية،فهل تتحول المنطقة تدريجياً وعلى نار حامية من محور مقاومة أسرائيل الى محور مقاومة نظام إيران؟قم تنادي الشيعة في العالم للدفاع عن النظام الإيراني لأن المرشد خامنئي بحاجة لكل دعم ممكن كون النظام الإيراني يتهاوى بشكل دراماتيكي، فيما بيع طهران لمسيّراتها للرئيس بوتين كشف مستور التخادم المصلحي بين طهران وموسكو ضد واشنطن والغرب.