كتب شارل جبور في نداء الوطن :
لم تختلف مقاربة نظام الأسد عن مقاربة “حزب الله” في اتجاهين أساسيين: التمسُّك بالوجود العسكري، والإمساك بالموقف الرسمي اللبناني كغطاء لهذا الوجود، وقد شكلت السيطرة على هذا الموقف هدفاً بحد ذاته، ليس من منطلق الخشية من تمكُّن لبنان الرسمي من إخراج جيش الأسد أو نزع سلاح “الحزب”، إنما انطلاقاً من حاجتهما إلى مسوِّغ شرعي حيال الداخل وخصوصاً الخارج يحصِّن وجودهما العسكري.
فنظام الأسد كان يرفع في وجه كل من يطالبه بإخراج جيشه من لبنان، أن وجوده يشكل مطلباً لبنانياً رسمياً مترجماً وموثقاً في البيانات الوزارية، عدا عن مواقف الرؤساء والوزراء الذين يعتبرون أن خروجه من لبنان يعيد إنتاج الحرب الداخلية، ويسمح لإسرائيل بإعادة احتلال بيروت. ومعلوم أن وصول هؤلاء إلى مواقعهم كان رهن الموافقة السورية التي كانت تُنتج السلطة لتبرِّر احتلال الأسد للبنان.
والأمر نفسه ينطبق على “حزب الله” الذي كان يتلطى بالبيانات الوزارية في كل مرة يطالَب فيها بتسليم سلاحه أسوة بالميليشيات التي سلمت سلاحها بعد انتهاء الحرب، وعندما يُحشر يقول إن السلاح بحاجة إلى حوار تحت عنوان استراتيجية دفاعية كإطار للبحث الدائم من دون نتيجة عملية، وتحوّل مع الوقت إلى غطاء لاستمرار هذا السلاح.
الفارق بين مرحلة نظام الأسد ومرحلة “الحزب”، أنه في المرحلة الأولى كان لبنان الرسمي برمته خاضعاً لنظام الأسد، فيما في المرحلة الثانية فقد جزئياً السيطرة على كامل القرار، وتحوّلت البيانات الوزارية إلى الشيء ونقيضه، ولكنه احتفظ فيها بحقه في ما يسمى مقاومة مخالفة للدستور اللبناني.
والغاية من كل ما تقدّم، التذكير بأن السيطرة على لبنان الرسمي كانت هدفاً أساسياً لتغطية الواقع المسلّح غير الشرعي، وتغطية الانقلاب على الدستور، وليس تفصيلاً بتاتاً ان يُصبح الموقف الرسمي اللبناني مطابقاً للشرعية اللبنانية والدولية بعد 35 عاماً على خطف القرار اللبناني، وبالتالي، ما تحقّق مع إنتاج السلطة الجديدة مؤخراً يرتقي إلى مستوى الهدف الاستراتيجي.
ليس تفصيلاً إذاً، انتخاب الرئيس جوزاف عون ولا خطاب قسمه الذي ركّز فيه على احتكار الدولة وحدها للسلاح، ولا تكليف الرئيس نواف سلام ولا كلامه عن بسط سيادة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني، ولا البيان الوزاري الخالي من ذكر ما يسمى المقاومة ونقطة ارتكازه الدولة، ولا مواقف رئيس الجمهورية وأبرزها في القمة السعودية، ولا مواقف رئيس الحكومة (…)، وبالتالي أصبح الخطاب الرسمي اللبناني خالياً للمرة الأولى من “فيروس” الاحتلال السوري وما يسمى المقاومة.
ما تحقّق في العام 2005 مع خروج جيش الأسد كان “نصف إنجاز”، وما تحقّق في العام 2025 كان “إنجازاً كاملاً”، ولا يجوز تحت أي عنوان أو حجة التفريط بهذا الإنجاز الكبير الذي تحرّر فيه لبنان الرسمي من أسر نظام الأسد و”حزب الله”، أي لا يجوز العودة إلى الوراء، لا بل يجب الذهاب قدماً إلى الأمام من أجل الانتقال من مرحلة الالتزام بسقف الموقف الرسمي إلى ترجمته على أرض الواقع.
معلوم أن “حزب الله” استخدم بعد العام 2005 شتى الوسائل السياسية والتعطيلية والعسكرية والأمنية لإعادة عقارب الساعة إلى زمن الاحتلال السوري، ولن يتوانى عن محاولة إعادة الموقف الرسمي إلى ما كان عليه قبل إنتاج السلطة الجديدة. لكنه اليوم في أضعف وضعية منذ نشأته ليس فقط بأبعادها المحلية، إنما بعمقها الإقليمي مع تخيير واشنطن المعلن لطهران بين التخلّي الطوعي عن ثلاثية النووي والصواريخ البعيدة المدى والدور المزعزع للاستقرار في المنطقة، وبين الضربة العسكرية.
علاوة على ذلك، فالدولة اليوم بإمكانها بسط سلطتها بالقوة تنفيذاً للدستور، الأمر الذي كان مستحيلاً قبل حرب الإسناد واتفاق وقف إطلاق النار وسقوط الأسد، فضلاً عن أن “الحزب” لم يعد يحظى لا بغطاء رسمي ولا بغطاء من الجماعات الأخرى، في ظل عجز إيراني عن فعل أي شيء بعدما حوصر بين إسرائيل نتنياهو وسوريا الشرع، وبالتالي، الحدّ الأدنى المطلوب في هذه المرحلة، هو الحفاظ على الموقف الرسمي الذي تظهّر بخطاب القسم والبيان الوزاري ومواقف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وأي تراجع عن هذا السقف هو كارثة ما بعدها كارثة.
مع إنتاج السلطة الجديدة طويت الصفحة الماضية الممتدة منذ العام 2005، وأقفل معها النقاش باللغة الخشبية التي كانت سائدة، والتي تبدأ بما يسمى المقاومة، ولا تنتهي بكذبة الاستراتيجية الدفاعية، والمطروح من الآن فصاعداً، تطبيق النصوص المرجعية فقط لا غير، وذلك بدءاً من وثيقة الوفاق الوطني، مروراً بالقرارات الدولية 1559 و1680 و1701، وصولاً إلى اتفاق وقف إطلاق النار، فلا بحث ولا متاهة حوار حول سلاح حوّل لبنان إلى دولة فاشلة ومنكوبة، وما على “حزب الله” سوى التخلي عن سلاحه الذي أخّر عدم تخليه عنه مشروع الدولة في لبنان لأكثر من 35 عاماً، وما على الدولة سوى بسط سلطتها على جميع الأراضي اللبنانية.
يفترض بكل من يريد لقطار الدولة الذي انطلق مع انتخاب الرئيس جوزاف عون أن يواصل مسيرته حتى محطته النهائية، أن يكون حريصاً على الإنجاز التاريخي الذي تحقّق من خلال عودة التطابق الملزم بين الموقف الرسمي والدستور اللبناني، وهو إنجاز تاريخي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لأنه استلزم 35 عاماً حتى تحرّر الموقف الرسمي الذي كان مصادراً من دمشق الأسد وطهران الخامنئي.
بدأ الانقلاب على الدستور عبر الإتيان بمسؤولين يتكلمون بلغة من أوصلهم لا بلغة الدستور اللبناني، وعاد للمرة الأولى الموقف الرسمي إلى ما يجب أن يكون عليه أساساً وإلا اتهم بالخيانة العظمى، لأن من يجب أن يكون الأحرص على الدستور هو من يتولى المسؤولية الرسمية.
من هذا المنطلق، إن الموقف الرسمي هو خط أحمر، ويجب الانطلاق منه لترجمته على أرض الواقع، أي تطبيق الدستور بدءاً من احتكار الدولة وحدها للسلاح.