منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والسؤال يُطرح حول وجهة السياسة الخارجية التركية، أي معرفة ما اذا كانت ستبقى جزءاً من الغرب وحلف الناتو، أم أن بالإمكان تحريك عجلاتها باتجاه الشرق، خاصة وأن أنقرة بدت وكأنها حتى الآن تحاول، في سياساتها وتعاطيها مع الملفات الدولية والإقليمية الساخنة، الجمعَ بين أضداد يصعب لا بل يستحيل الجمع بينها : أداء دور رئيسي في الشرق الأوسط أو شرق البحر المتوسط أو في العالم الإسلامي.
الى الآن وعلى مسافة بضعة أيام خلت، نجحت أنقرة في اتّباع سياسة متوازنة في ملف الحرب الأوكرانية وهو ما جعلها تحظى بثقة الأطراف المتنازعة الروسية والاوكرانية الغربية والأميركية، وقد تمكّنت، بالتعاون مع الأمم المتحدة، من حمل الطرفين الروسي والأوكراني على توقيع اتفاقية تصدير القمح عبر معابر البحر الأسود.طبعاً هذا الدور الإيجابي لا يغطي على ما سعى اليه ولا يزال الرئيس رجب طيب اردوغان منذ اندلاع النزاع في أوكرانيا، ألا وهو مساعدة الروس والأوكرانيين لتأمين مصالح تركيا أولاً.
فالرئيس اردوغان يقيم علاقات مقبولة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رغم خلافات كبيرة بينهما حول ملف إقليم ناغورني كاراباخ، إلا أنه استطاع المحافظة على تلك العلاقات، علماً بأنه عضو في حلف الناتو، لكنه لطالما تجنّب حتى الآن تهديد أي من الدولتَين المتصارعتَين، روسيا وأوكرانيا، مزوداً الأوكرانيين بمسيّرات دمّرت القوافل والدبابات الروسية، ومانعاً عبور السفن الحربية الروسية من مضيق البوسفور، موصداً بذلك الباب أمام اجتياح ميناء أوديسا، لكن وفي نفس الوقت عدم فرض تركيا عقوبات على روسيا وفتح الموانىء التركية ليخوت أصدقاء الرئيس بوتين من أصحاب المليارات وصولاً الى استقبال استثمارات روسية في أنطاليا واسطمبول، وعلى مقلب آخر داعماً في الوقت عينه استقلال أوكرانيا بموازاة استمرار علاقته الإقتصادية مع روسيا. في مقابل كل هذا تبقى تركيا تحت الضغط، ولا سيما من حلفائها الغربيين وفي حلف الناتو، وللعلم فإن الضغوط الغربية كثيفة وكبيرة على الرئيس اردوغان راهناً لانتهاج سياسة أكثر تشدداً تجاه الرئيس بوتين، خاصة مع اشتداد الحرب في أوكرانيا ونجاح التقدّم الروسي في العمق الشرقي للبلاد وتفوقه العسكري على الأوكرانيين الى الآن في الميدان، في وقت يبقى فيه سيف الضغط الروسي على تركيا مسلطاً، خاصة فيما يتعلق بعرقلة تجديد الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية للسوريين في إدلب، علماً بأن اردوغان كان قد مهّد لاشتباكه مع بوتين في سوريا التي ينوي اجتياح شمالها بمنع الرحلات الجوية العسكرية الروسية فوق تركيا.
هدف الرئيس التركي المباشر حالياً من كل سياساته هو تحقيق فوز في الانتخابات الرئاسية عام 2023 وتحسين الوضع الاقتصادي التركي الذي يعاني من وضع سيء جداً انعكس على الليرة التركية الآخذة بالانهيار.وبموازاة كل ذلك، لطالما سعى الرئيس اردوغان الى إقامة أفضل العلاقات مع الأميركيين بعد مرحلة جفاء وتنافس كانت قمتها صفقة الاس 400 التي شكّلت تحدياً مباشراً لواشنطن في عز توتر تلك العلاقات،فانفتح على أميركا كما على العرب والخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر اعتباراً من العام 2021، وقد سجّلت زيارة اردوغان للمملكة في 28 نيسان الماضي نقطة تحوّل في العلاقات بين البلدين و كانت أهميتها بأنها الأولى بعد اغتيال الصحافي جمال خاشقجي.
لكن الرئيس اردوغان بقي أسير منصة أستانا، والتي تحوّلت الآن وبعد اندلاع حرب أوكرانيا الى منصة مناهضة للغرب وللأميركيين، مع استدارة الرئيس بوتين نحو دعم إيران لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة.وفي قمة طهران الأخيرة، شعر الرئيس اردوغان بثقل العداء المستحكم بين شريكيه الروسي والإيراني في أستانا وبين الغرب الذي لم يقرّر هو الانفصال عنه الى الآن.فهو أراد في قمة طهران الإستحصال على ضوء أخضر لمهاجمة شمال سوريا كما يخطط، منعاً لقيام أي تهديد استراتيجي للأكراد، لكن طهران وموسكو رفضتا منحه هذا الضوء.قصف إقليم زاخو في شمال العراق، رغم النفي التركي الرسمي حول ضلوعه في هذا القصف، جعل اردوغان يخطىء على الجهتين : في أنه قتل أبرياء وقلب الرأي العام العراقي ضده وجمع الشيعة والأكراد والسنّة ضد تصرفه، وقد تقدم العراق بشكوى رسمية الى الأمم المتحدة ضد تركيا، وفي أنه سمح لإيران بأن تستغل ما حصل لتقوية سيطرتها على العراق من باب تأييد العراقيين في رفضهم للقصف وتداعياته، ما مكّن طهران من توجيه رسالة واضحة الى أطراف قمة جدّة مفادها بأن أوان خروج العراق من عباءة ولاية الفقيه لم يحن بعد رغم كل محاولات الكاظمي الأخيرة والاحتضان العربي الخليجي الذي لقيه في جدّة.
الرئيس اردوغان أخطأ – فلا الأمريكيين ومعهم الإسرائيليين موافقون على ضربه للأكراد، ولا الروس والإيرانيين موافقون على إضعاف بشار الأسد.والأهم أنه بدأ يخطىء بحق المملكة العربية السعودية،بحيث أن تبادل الزيارات بين الرئيس اردوغان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بشّر بفصلٍ جديدٍ من العلاقات البنّاءة، حينها امتنع ولي العهد عن زيارة اليونان لإعطاء التقارب التركي - السعودي كل الفرص والظروف الملائمة من دون أي استفزاز، فتأجلت زيارته الى اليونان وقبرص حينها في ظل ما تردّد عن استعدادات سعودية لبناء مصانع تصنيع المسيّرات التركية.لكن مع حضور اردوغان قمة طهران الى جانب الرئيس الإيراني رئيسي والرئيس الروسي بوتين، أيقنت السعودية أن التوقيت ملائم لزيارة اليونان وإبرام اتفاقيات في مجالات الطاقة والتعاون العسكري واتفاقية كابل البيانات الرابط بين آسيا وأوروبا، ومع قصف اردوغان لشمال العراق وتنديد السعوديين بهذا القصف وإدانته، بدأت ترتسم خطوط تشابك واشتباك بين البلدين قد لا تفضي بالضرورة الى توتّر وتصعيد ولكن في مطلق الأحوال تعيد ضبط عقارب الاتفاقيات بين المملكة وتركيا.
الأمير محمد بن سلمان يدرك أن "الطبخة" مع تركيا لم تنضج بعد للمراهنة الكاملة والنهائية على الرئيس اردوغان، وما يهمه هو إفهام الرئيس التركي أن بناء الثقة لا ينتهي بين زيارة وأخرى، وأنه لا بد من خطوات إضافية لا يصب لقاؤه الرئيس الإيراني في طهران في خانة تعزيزها.ولي العهد يريد دمج تركيا في المنطقة، لكن لهذا الدمج شروط لم تفِ بها أنقرة الى الآن د، وإرادة الدمج منبعها منع تركيا مستقبلاً من العودة الى سياسات معادية للعرب والمنطقة والأنظمة فيها، بحيث لا يعود بإمكان الأتراك إن تغيروا في سلوكياتهم من الإستفادى من علاقاتهم الإقليمية مع المنطقة العربية.
أنقرة حالياً أمام امتحانَين كبيرين : إثبات هوية سياساتها الخارجية إقليمياً ودولياً، وإثبات إرادتها الحقيقية في الاندماج في المنطقة، لكن خطأين متلاحقين خلال يومين أو ثلاثة لا يساعدان على تحقيق المطلوب، فلا قصف شمال العراق ولا المشاركة في قمة طهران مؤشرين سليمين .