أشبه الذي يحصل حالياً في العراق بالذي حصل وقد يحصل مجدداً في لبنان.
لتبسيط الصورة : كما في لبنان كذلك في العراق، القوى السياسية والميليشيات المنضوية تحت عباءة إيران والحلفاء لها تريد إحكام السيطرة على مفاصل الدولة في مقابل تيار عراقي واسع يريد إخراج العراق من التأثير الإيراني وإنهاء سيطرة طهران على القرار العراقي.
المفارقة الوحيدة الممكن التوقف عندها بين العراق ولبنان هي أنه في العراق، رأس الحربة في حركة تحرير العراق من إيران، قائد شيعي زعيم تيار شعبي واسع هو مقتدى الصدر، بينما في لبنان الثنائي الشيعي مبتلع كلياً من طهران، فيما ورأس الحربة في حركة تحرير لبنان من الإحتلال الإيراني مجموعة أحزاب وقوى وكتل سيادية وبرلمانية على رأسها القوات اللبنانية برئاسة الدكتور سمير جعجع وسياديي 14 آذار.
في العراق، مأزق سياسي وانسداد أفق من دون أي حل خصوصاً مع تصاعد الصدام السياسي بين الطرفين الأساسيين : حركة الصدر وحلفاؤه من أكراد وسنّة والإطار التنسيقي وحلفاؤه من جماعة إيران وعلى رأسهم نوري الملكي، وكان الصدر قد كسب الإنتخابات البرلمانية الأخيرة منذ أكثر من تسعة أشهر بحيازته أكبر كتلة ما لبثت أن استقالت لتخلفها كتلة المالكي المتأيرنة ( من إيران).
مطلب الزعيم الشيعي المعارض مقتدى الصدر راهناً بحل البرلمان أمام حائط شبه مسدود : عدم صلاحية القضاء لإعلان الحل كما أن رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي لا صلاحية له للطلب من رئيس الجمهورية حل البرلمان، فيما البرلمان يلزمه لحل نفسه أن يوافق الإطار التنسيقي على حله كونه أكبر كتلة تملك الأكثرية بعد استقالة نواب الصدر، وهو الأمر الذي يرفضه الإطار بطبيعة الحال، وقد تربّع على عرش أكثرية غير مستحقة لم يكن ليحلم بها لولا استقالة كتلة الصدر.
الصدر أعلنها حرباً على الفساد مستهدفاً بذلك القوى الحليفة لإيران والمتحكمة بالسلطة على غرار السلطة اللبنانية المتحكمة بها إيران عبر حزب الله، طالباً تغييراً شاملاً ونظاماً جديداً لإنقاذ العراق، فيما الإطار يتلطى وراء الدستور والشرعية وسيادة القانون لمنع حل البرلمان الذي له فيه حصة الأسد، وقد باتت هذه الشرعية تخدم مصالحه في البقاء والسيطرة على السلطة.
الكباش اذاً على أشدّه في العراق، وما دعوات نوري المالكي للعودة الى انعقاد جلسات البرلمان الا مناورة مكشوفة الأهداف غايتها مكاسرة الصدر الذي لن يقبل بذلك على الإطلاق.
مأزق سياسي و تصادمي يشل البلاد وينذر بانتقال المواجهة الى الشارع في غياب أية حلول سياسية وحتى مؤسساتية، في ضوء الدعوات إلى التظاهر في محيط البرلمان العراقي من التيار الصدري والإطار التنسيقي، مع أن الصدر أجّل تظاهرة يوم السبت المقبل الى أجَلٍ غير مسمى لعدم الوقوع في شرك التنسيقي، علماً بأن التيار الصدري مسلح وكذلك الحشد الشعبي، ما يُنذر باندلاع مواجهات اذا ما أطلق العنان للغة الشارع.
وسط هذه الأجواء، يُخشى من موجة اغتيالات يكون فيها المتسهدَف الأول مقتدى الصدر الذي بات يقود اليوم معركة التحرّر من إيران التي كما تعوّدنا تستسهل التخلّص من خصومها السياسيين الشرسين بالقتل، وأمامنا في لبنان مثال الشهيد رفيق الحريري ومرافقيه وقافلة شهداء 14 آذار.الصراع واقع بين شرعية المؤسسات المختزلة والمختطفة وبين شرعية ومشروعية التمثيل الشعبي ولا يمكن تجاهلها أو اختزالها من ضمن مؤسسات الدولة.
وفي حين يبدو الإنقسام في لبنان عمودياً بين شيعة وسنّة ومسيحيين من جهة، ومسيحيون وسنّة ودروز وبعض الشيعة من جهة أخرى حول فكرة لبنان وتموضعه وشكل نظامه وهويته، نجد في العراق الإنقسام عمودي ولكن ضمن البيت الشيعي الواحد والمكوّن الواحد حول فكرة الدولة وشكل النظام وهوية العراق أيضاً.
في العراق اذاً إعتصام مقابل إعتصامٍ، وتظاهرة مقابل تظاهرة، والتيار الصدري الذي يدعو الى إنهاء الإحتلال الإيراني للعراق يدعو الى حل البرلمان وإجراء إنتخابات مبكرة، بينما الإطار التنسيقي الموالي لإيران يرفض حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة وهو يعلم أنه اذا حصلت فلن يحظى بفرصة حيازة أكثرية كما هي الآن والتي ورثها من كتلة التيار الصدري، وهو يدعو بالمقابل الى تشكيل حكومة تضم كل القوى السياسية كما ينادي حزب الله في لبنان بتشكيل حكومة وحدة وطنية للتنصل من مسؤولية فشل حكومات اللون الواحد أو حكومات محوره التي أوصلت لبنان الى الخراب، والغاية من مثل هذه الحكومات الجامعة تعطيل مفاعيل نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة في لبنان، تماماً كما يسعى الإطار التنسيقي في العراق الى تشكيل حكومة جامعة تلغي مفاعيل إنتخابات العراق الأخيرة والتي أظهرت بوضوح الثقل الشعبي الى جانب التيار الصدري المناوىء لإيران.
تيار إيران في العراق يتهم الولايات المتحدة وقوى أجنبية بتسعير الخلافات السياسية والإستثمار فيها، تماماً كما يتهم حزب الله أخصامه والولايات المتحدة والقوى الأجنبية ومؤخرا المملكة العربية السعودية بالإستثمار في الازمة اللبنانية والتدخل في الشؤون اللبنانية كما التدخل في الشؤون العراقية، متناسياً تدخل إيران المباشر في الحياة السياسية العراقية وآخر تجلياته وجود قائد فيلق القدس إسماعيل قآني في بغداد بالتزامن مع اندلاع الأزمة السياسية واقتحام التيار الصدري مبنى البرلمان والمنطقة الخضراء، وما أعلنه الإطار التنسيقي نفسه من أن قآني قد عرض على الصدر حكومة من تسعة وزراء مقابل وقف التظاهرات وسحب مطلبه بإعادة الإنتخابات، بما يدين إيران ويفضح تدخلها في تفاصيل الحياة السياسية وصولاً الى تشكيل الحكومات عن لسان جماعة إيران أنفسهم في العراق ... ومع ذلك تتهم دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة بالتدخل ...
ما أقرب العراق الى لبنان وما أكثر التطابقات بين البلدين في أزمتهما السياسية، وقد صدق القول المأثور: إن أردتَ أن تعرف ماذا يحصل في لبنان فعليكَ النظر الى ما يحصل في العراق ... وهذا القول وجد جذوره منذ حلف بغداد في العام 1955 وقد شكلت بغداد على الدوام ميزان التوازنات الجيو سياسية في المنطقة لا سوريا خلافاً كما يظن البعض عن جهل أو سوء مقصد ...
أمام لبنان إستحقاق دستوري مهم جداً الا وهو الإنتخابات الرئاسية، حيث هناك التحدي الكبير الذي قد يزيد على المشهد العراقي مشهداً لبنانياً شديد التأزم والتعقيد اذا لم ينجح التيار السيادي في لبنان في إيصال رئيس متحرّر من إيران، ما سيضطر هذا التيار اللبناني الى مقاطعة الإنتخابات منعاً لإيصال دمية بيد إيران، الأمر الذي سيؤدي بدوره الى دخول البلاد في أزمة فراغ دستوري وسياسي يزيد من انغماسه في المجهول.إنها حتميات التاريخ والجغرافية والجيو سياسة ... توأمة لبنانية- عراقية للأزمات ... لا مفر لواحدة منها دون الأخرى.