جورج أبو صعب
ما حصل في جنوب لبنان منذ أيام من تصعيد مفاجئ، صراحة لم يفاجئنا كما لم يفاجئ المطلعين على خفايا المسرحية الهزلية التي تدور في المنطقة منذ العام 1982 وحتى أيامنا هذه. فالمبدأ المتكرر هو أنه كلما حُشر النظام الإيراني وحزبه في لبنان مدّتهما إسرائيل بالأوكسيجين لإعادة انتشالهما بحجة الصراع النووي والصاروخي وتحرير القدس.
ففي العام 1982، استهدف حزب الله جنود المارينز والقوات الفرنسية في بيروت بانفجار مدمّر قتل عشرات الجنود من البلدين. وبدل الإنتقام الصاعق نفذت واشنطن وباريس بعض الغارات على بعض المواقع في بقاع لبنان، فكانت النتيجة تثبيت ظهور حزب الله كقوة مسلحة جديدة في لبنان والمنطقة، وكمعادلة لبنانية جديدة لخدمة إيران الخميني المدعوم غربياً من الولايات المتحدة وفرنسا وأوروبا.
وفي العام 1996، في وقت كان لبنان في خضم ورشة إعمار وكان حزب الله يواجه ضغوطاً داخلية حول مطلب تسليم سلاحه للجيش، قامت إسرائيل بتنفيذ عملية عناقيد الغضب فقتلت أبرياء لبنانيين كثر، خصوصاً في مجزرة قانا، فيما حزب الله لم يتكبد أية خسائر كبيرة، فكانت النتيجة تقوية شوكة الحزب داخلياً وإعطائه عذراً قوياً للإحتفاظ بسلاحه بحجة مقاومة الخطر الإسرائيلي والإحتلال في الجنوب اللبناني.
وفي العام 2000، وإثر عودة المطلب اللبناني الملح والضاغط بتسليم الحزب سلاحه للشرعية اللبنانية، إنسحبت إسرائيل من الجنوب بشكل دراماتيكي ما عزّز حجة الحزب بقوة ردع سلاحه الذي أجبر إسرائيل على الإنسحاب، كما يقولون. وزيادة في خدمة حزب الله ومساعدته على تبرير سلاحه، لم تنسحب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بحجة أنها ليست أراضٍ لبنانية، ما سمح للحزب أن يعلن من جهته تمسكه بالسلاح لتحرير تلك البقعة بحجة لبنانيتها. فكانت النتيجة تعزيز سلاح الحزب ومنحه تبريرات جديدة، فتندثر بالتالي المطالبات بتسليم سلاحه وإقرار الإستراتيجية الدفاعية.
وفي العام 2005، وإثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري ورفاقه، والذي كان يعمل على إخراج لبنان من السيطرة الإيرانية والسورية، وبعد انسحاب جيش الإحتلال السوري من لبنان أصبح حزب الله مكشوفاً وانفتحت أمام اللبنانيين فرصة تاريخية لاستعادة الدولة والمؤسسات والسيادة مع انتفاضة الشعب السيادي في ما عُرف بثورة الأرز، فإذ بإسرائيل العام 2006 وبما سمي بحرب تموز، تشن هجوماً على لبنان. وفي خلال 30 يوماً، تنتهي العمليات العسكرية، قصف خلالها الحزب مناطق شمال إسرائيل المسكونة من غالبية فلسطينية، فيما إسرائيل تدمر البنى التحتية اللبنانية وتقتل عشرات اللبنانيين. فكانت النتيجة إقرار إسرائيل واعترافها بمعادلة الردع بينها وبين الحزب ووضع ترتيبات ساهمت مباشرة في تكريس سلاح الحزب في معادلة إقليمية وداخلية محكمة، وقد اكتسب الحزب تعاطفاً عربياً وإسلامياً قل نظيره بكونه قوة مقاومة للمحتل الصهيوني ومقاوم لجيشه، فزادت قوة النفوذ الإيراني وسيطرة الحزب على كافة مفاصل الدولة.
وفي العام 2011، وبعدما استتب له الأمر في الداخل اللبناني بسيطرته على المعادلة اللبنانية السياسية والدستورية إبان اتفاق الدوحة العام 2008، وإذ بالحزب يتورط خارج الحدود في الصراع السوري بحجة الدفاع عن الأماكن المقدسة للشيعة، ويدعم نظام الأسد ومن ثم يطلق العنان لتدخلاته الإقليمية في اليمن والعراق خدمة لأجندات النظام في طهران، فتتعالى المطالبات اللبنانية والعربية بالعودة الى لبنان والانسحاب من الدول العربية. وفجأة، ومع ازدياد الضغوط عليه يظهر داعش ويتم تسليمه الموصل ومناطق عدة في العراق وسوريا. وعلى الأثر، وكردّ على هذه الظاهرة، يتم تشكيل الحشد الشعبي الإيراني، شقيق حزب الله في العراق، ويتحول مبرر حزب الله لتورطه في المنطقة بمحاربة الإرهاب الداعشي والنصرة لحماية العمق اللبناني.
وكانت إسرائيل تراقب مآل ما سمي بالربيع العربي، وكانت الدول العربية الأساسية في حالة فوضى، ودول الخليج في أضعف أوضاعها، فلم تشعر تل أبيب بأي قلق من التطرفين السني والشيعي مع أنهما على أبوابها إنْ في لبنان أو في سوريا، وقد تركت الحزب يعزز تورطه في الإقليم ليكسب فائضاً من القوة عاد واستخدمها في الداخل اللبناني حتى الآن.
وأخيراً، في حرب غزة الأخيرة، لم يطلق حزب الله صاروخاً واحداً ضد إسرائيل وعندما أطلق صاروخين أو ثلاثة من جهة قيل إنها مجهولة من منطقة لبنانية، سارع الحزب إلى نفي مسؤوليته، مع أن منطق “المقاومة” وعقيدة الساحات المفتوحة للمواجهة مع الصهاينة، كان يفترض أن يستغل الحزب انهماك الإسرائيليين في حربهم مع غزة والضفة لإرباكهم بالتدخل دعماً لحلفاء الحزب في فلسطين (حماس والجهاد)،
فما كان من إسرائيل، بنيامين نتنياهو يومها، كما بالأمس من إسرائيل نفتالي بنيت، إلا أن قالت إنها لا تريد التصعيد مع حزب الله وتخفف بذلك من وطأة قصف حزب الله بالأمس، بالإشارة إلى سقوط الصواريخ في أماكن فارغة لتبرير القصف المقابل لمناطق فارغة، وهذا ما أكده الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في خطابه مساء السبت بإشارته إلى الرد على العدو بقصف أرض مفتوحة تماماً كما قصف العدو أرضاً مفتوحة.
تاريخ طويل من التخادم بين إيران وإسرائيل، برعاية الأميركيين والغرب، لم يعد يصلح السكوت عنه والتغاضي عن مساوئه. فلم تعد مسرحيات الإعتداءات وإشعال الجبهات تنطلي علينا وقد كشفنا لعبة التخادم وتقاطع المصالح وكما سبق وذكرنا مرات عدة في مقالات سابقة أن إيران تبقى حاجة أميركية، وحتى ولو حصلت حرب بين إسرائيل وإيران، فستكون الحرب لضرورات استكمال سيناريوهات التخادم، والغاية الأساسية الإتفاق على الدول العربية لإضعافها ومحاصرتها. ومن هنا اليقظة العربية المتجددة لمواجهة المخطط المضاد، إبتداء من مصالحة الخليج مروراً بمشروع الشام الجديد وصولاً إلى مشروع الشرق الأوسط الإقتصادي الرابط من العراق إلى أوروبا مروراً بالأردن وإسرائيل ولبنان، أن تحرر من نير إيران وحزب السلاح.
ثمة حقيقة يجب أن يعرفها القاصي والداني: ليس المطلوب إسقاط النظام الإيراني الذي لن يسقط إلا من الداخل، بل المطلوب إبقاءه على قيد الحياة على الرغم من معاناته في الداخل وإنقاذ حزب الله المحشور والمضغوط والمحاصر معيشياً وإقتصادياً وسياسياً في الداخل اللبناني بفعل تحميله عن حق المسؤولية الأولى عن الإنهيار اللبناني الشامل.
قد يكون المطلوب، دولياً وإقليمياً، تسعير إيران وتشريسها (أي جعلها أكثر شراسة)، إذ تزداد قوة وتماسكاً ويزداد إمساك سلاحها في لبنان وحزبها بقبضة حديدية مفاصل الدولة وقرار الحرب والسلم فيه.