أعلن رئيس الوزراء نواف سلام من جامعة بيروت العربية، انّ “لبنان لا يملك ترف إضاعة الوقت وإعادة بناء الدولة ليست شعارًا بل التزام نعمل على تحقيقه فلا قيام للدولة من دون إصلاحٍ حقيقي”.
تابع سلام: “لا ثقة من دون قضاء مستقل ولا إنماء من دون إدارة حديثة ولا أمان من دون حصر السلاح بيد الدولة وهذه مسلّمات لا مساومة عليها”.
وجاء في كلمة سلام في حفل تخرج طلاب الجامعة العربية مساء اليوم الأربعاء في حرم الجامعة في منطقة الدبية:
“أيها الخريجون والخريجات،
الأهل الكرام،
أصحاب الدولة والمعالي والسعادة،
أيها السيدات والسادة،
أودّ أن أتوجّه أولاً بجزيل الشكر والامتنان إلى مجلس أمناء جامعة بيروت العربية على منحي هذه الدرجة الفخرية في القانون، والتي أعتبرها قبل أي شيء تعبيرًا عن ثقة ومسؤولية، أكثر منها تكريمًا شخصيًا.
كما أشكر الجامعة، رئيسًا وأساتذةً وإداريين، على احتضانها لهذا اليوم الجامعي والوطني بامتياز، وأحيي كل فرد منكم، من أهل وطلاب وخريجين، على حضوركم ومشاركتكم في هذه اللحظة التي تجمع بين الفخر والتأمل، بين المنجز والتطلع.
أقف اليوم أمامكم ليس بصفتي رئيس حكومة لبنان فحسب، بل كمواطن لبناني مؤمن بدور الشباب في النهوض بالوطن، وبأن المستقبل لا يُبنى إلاّ بالعلم والحرية والإرادة الثابتة، وذلك في كنف مؤسساته الوطنية، التربوية والجامعية، الرسمية منها والخاصة.
فهذه الجامعة التي كانت، وما زالت، منارة علم وانفتاح وتعدد، تمنحني اليوم، فضلاً عن الدرجة الفخرية، شرف الوقوف على منبرها، لأخاطب جيلًا جديدًا ينطلق إلى العالم في ظروف لا تخلو من الصعوبات، لكنّها لا تخلو أيضًا من الفرص.
جامعة بيروت العربية ليست مجرد صرح جغرافي انطلق في قلب بيروت، من طريق الجديدة، الى الدبيّة والبقاع وطرابلس، بل فكرةٌ حيةٌ في ذاكرة جيلي من أبناء بيروت، من خلال تجددها المستمر الذي نحتفل به سنة بعد سنة بمناسبة احتفالنا بخرّيجيها.
لم تولد جامعة بيروت العربية صدفة، فهي متّصلة بشقيقتها الكبرى في الإسكندرية، لكنها متجذّرة في تراب بيروت، تمدّ يدها كمساحة علم وحرية وانفتاح، لكل طالب من أي مكان اتى، لا سيما من الوطن العربي.
ولهذه الجامعة حضورٌ وجداني في ذاكرتي.
ففي سبعينيّات القرن الماضي، شكّلت جامعة بيروت العربية ومحيطها مركزًا كنّا نقصده في العديد من المناسبات. ولا أزال أتذكّر كيف كنا نتردّد إلى حرمها، لحضور أنشطة ومهرجانات، منها ثقافية ومنها مطلبية وسياسية، في قاعة جمال عبد الناصر الشهيرة.
وقد شكّلت هذه الجامعة، منذ نشأتها، امتدادًا مشرقًا للروابط التاريخية، الثقافية والفكرية، التي جمعت بيروت بكل من القاهرة والإسكندرية، والتي تجددت على نطاق واسع منذ منتصف القرن التاسع عشر، فيما عرف بعصر النهضة.
وكم كبيرة هي حاجة عالمنا العربي اليوم لاستعادة أفكار هذه الحقبة العظيمة من تاريخنا التي سعت منذ قرن ونصف ان تدخل مبادئ التنوير إلى بلادنا، وان ترسي فيها قواعد الحداثة المتميزة بالعقلانية العلمية وبالحرية الفردية والتجدد والتسامح الديني. إنجازات كبيرة تحققت في هذا السياق، إلا أن “النهضة” كمشروع شامل ظلت غير مكتملة.
فالمطلوب اليوم ليس استكمال هذا المشروع الفكري فحسب، بل يجب تعزيزه من خلال نشر مفاهيم دولة القانون واحترام حقوق الإنسان.
كما علينا تقديم مفهوم المؤسسة على دور الافراد في حياتنا العامة. فما تقدّمت الدول في عصرنا إلا بالتراكم الذي سمحته مؤسساتها، وبحسن التنظيم الذي قامت عليه، وبإدارتها على أعلى درجة من المهنية بعيداً عن الاعتبارات الاجتماعية التقليدية والمصالح الفئويّة.
وبالعودة الى بيروت وجامعتها العربية، يهمني التشديد على مدى الشبه بين بيروت وجامعتها:
فمدينتي عنيدة في انتمائها العربي وفي انفتاحها على العالم في آن، مشغولة بهمّ المعرفة والتقدم رغم الأزمات المتلاحقة التي عصفت بلبنان.
والجامعة بدورها تشبه مدينتها: تعاني ولكن لا تستسلم رغم كل الصعاب، وتبني الأمل بالعلم، واثقة بحب اهل بيروت لها وتقديرهم لدورها.
أيها الطلاب والطالبات،
لا شك ان شهادتكم اليوم بداية مرحلة جديدة في حياتكم، ولكنها ليست خاتمة علاقتكم بالعلم والمعرفة.
احفظوا جامعتكم داخلكم. فقد تدرّبتم فيها على التفكير الحر وعلى منهج الشك العلمي وما احوجكم اليهما في عالمكم الجديد.
واحفظوا أيضاً داخلكم بيروت، مدينة الحلم والامل. فلا تتخلوا عن احلامكم وطموحاتكم بعالم أفضل، واعملوا على تحقيقها من مواقعكم الجديدة في عالم العمل.
أيها السيدات والسادة،
في أول كلمة لي بعد تكليفي تشكيل الوزارة، توجهت الى شباب لبنان الذين هم طاقة هذا البلد ومهندسو غده، الشباب الذين غادروا لبنان مقهورين أو بقوا هنا محبطين، لأقول لهم أنّ لبنان الذي نعمل لأجله هو لبنان الذي يحتضنكم لتعيشوا فيه بأمان: تتعلمون هنا، وتعملون هنا وتساهمون هنا في بنائه على صورة طموحاتكم.
فمستقبل لبنان لا يبنى من فوق، بل من طاقات شبابه الصاعد.
ونحن هنا اليوم نسعى، بكل ما أوتينا من قوة ومعرفة، لنسلّمكم وطنًا أفضل مما استلمنا.
أما المستقبل، فأنتم صنّاعه، فاجعلوه على مقاس أحلامكم، ولا تقبلوا بما أخفق فيه اسلافنا، او ما قد نقع نحن فيه من أخطاء.
أمامنا اليوم لحظة لا تحتمل التأجيل. ولبنان لا يملك ترف إضاعة الوقت … صدقوني.
فإعادة بناء الدولة القادرة والعادلة ليست شعارًا يرفع، بل التزام اعمل انا وزملائي في حكومة “الإصلاح والإنقاذ”، بلا كلل او مواربة، على تحقيقه.
فلا قيامة للدولة القوية دون اصلاح حقيقي يسمح ببناء مؤسسات فاعلة،
ولا استقرار فعليّا دون الانسحاب الإسرائيلي الكامل من بلادنا والشروع بإعادة اعمار ما دمره العدوان،
ولا ثقة دون قضاء مستقل،
ولا نموّ دون إدارة حديثة ونزيهة،
ولا أمن او أمان دون حصر السلاح بيد الدولة وحدها، واستعادتها الكاملة لقرار الحرب والسلم.
هذه مسلّمات لا مساومة عليها. قد نكون تأخرنا كثيرًا في تثبيتها، لا سيما منذ إقرار اتفاق الطائف، ولكن عهدي لكم ان لا تراجع عنها بعد اليوم.
أيها الخريجون، ايتها الخريجات،
نحن نعيش اليوم تحوّلًا غير مسبوق في تاريخ البشرية الحديث. فالعالم لا يتغير فقط، بل يعيد اختراع نفسه. لم يعد التحوّل الرقمي مجرد أداة تسهّل حياتنا، بل أصبح البيئة الجديدة التي نعمل فيها، ونتعلّم، ونتواصل، ونفكر.
الذكاء الاصطناعي، والبيانات، والتقنيات المتقدمة لم تعد أسئلة نظرية أو مشاريع مستقبلية… إنها واقع يوميّ يعيد تشكيل سوق العمل، والعلاقات الإنسانية، وحتى مفاهيمنا عن المعرفة ذاتها.
هذا التحوّل، كما هو شأن كل الثورات الكبرى، يفتح أبوابًا واسعة للفرص، لكنه يطرح أيضًا تحديات عميقة:
كيف نحفظ الكرامة الإنسانية في ظل متغيرات ظروف العمل وشروطه؟
كيف نوازن بين السرعة التي تفرضها الآلة، ومتطلبات الحوكمة الرشيدة التي تحتاجها مجتمعاتنا؟
كيف نعلّم الأجيال القادمة التفكير النقدي وسط تدفق لا يتوقف للمعلومات؟ وكيف نميّز بين الصح والخطأ فيها؟
أنتم تدخلون إلى هذا العالم المتغيّر. ودوركم لن يكون فقط أن تتأقلموا معه، بل أن تسائلوا سرعته، أن تحافظوا على انسانيّته، لتبقى قيم الحرية والعدالة، والكرامة، جزءًا من هذا التقدم.
أيها الخريجون، ايتها الخريجات،
مثل اهلكم، ومثل اساتذتكم، انا على ثقة كبيرة انكم بما حصّلتموه من علم واكتسبتموه من تجربة في هذا الصرح الجامعي المميّز سوف تكونون على قدر طموحاتكم، وعلى قدر المسؤوليات الكبيرة التي تنتظركم، وعلى قدر الأمل الذي زُرع فيكم.
واسمحوا لي أن اعود وأعبّر للجامعة عن عميق امتناني وشكري لمنحي شرف الدكتوراه الفخرية في القانون.
فالقانون بالنسبة لي هو من أبرز مظاهر الحضارة الإنسانية، إذ يمثل الأداة الأساسية لتنظيم العلاقات داخل المجتمعات وفيما بين الدول بطرق سلمية. فمن خلال القانون، تُضبط السلوكيات، تحترم الحريات، تُحفظ الحقوق وتحدد الموجبات، تُصان الكرامة الإنسانية، وتتحقق العدالة.
وفي عالم يشهد تزايدًا في الترابط والتداخل بين الدول، تبرز الحاجة إلى قانون دولي ينظم العلاقات على أساس من الشرعية والتفاهم. فالقانون الدولي يُعدّ الأداة التي تحمي السلم والأمن الدوليين، وتنظيم انشطة مثل التجارة والمواصلات والاستثمار والاتصالات. كما يعزز هذا القانون مبدأ المساواة بين الدول، ويكفل محاسبة من ينتهك قواعده سواء من الدول أو الأفراد.
ورغم التحديات التي تواجه تنفيذ القانون الدولي أحيانًا، إلا أن وجوده يظل ضرورة لضمان عالم أكثر عدالة واستقرارًا، حيث تحكم العلاقات فيه مبادئ وقواعد واصول محددة، وليس منطق القوة.
وفي لحظات الحقيقة، يكون القانون الدولي هو السور الأخير بين المدنية والبربرية، بين الحضارة والفوضى، بين سيادة الحق وسلطة الغاب.
ولولا القانون الدولي، لما كان هناك ميثاق أمم متحدة، ولا محكمة عدل دولية، ولا اتفاقيات جنيف التي تحمي المدنيين في أوقات الحرب.
ولولا القانون الدولي، لكان الأقوى دائمًا هو الأحق، وأضاعت حقوق الضعفاء.
فالقانون الدولي هو ما يجعل من جرائم الحرب جرائم، ومن العدوان اعتداءً، لا “نزاعًا”، وهو ما يمنح الضحايا اسماً وصوتاً وحقاً، مهما كان حجمهم او موقعهم.
غير ان القانون الدولي لا يُطبَّق دائماً، او انه يطبق انتقائياً. انما الجواب على ذلك لا يكون في التخلي عنه، بل في السعي لجعله أكثر شمولاً، وأكثر فاعلية.
أيها الخريجون، ايتها الخريجات،
لا تيأسوا إن تأخر القانون في إحقاق العدالة.
فالبرهان ان صوت فلسطين اخذ يعلو – ولو بعد زمن طال انتظاره – في ارفع المحاكم الدولية، حيث تُحمَّل إسرائيل مسؤولية ما ارتكبته من جرائم ضد المدنيين في غزة، وتُنزَع الشرعية كاملة عن بقائها في الأراضي التي احتلتها عام 1967.
أيها الخريجون، ايتها الخريجات،
كونوا صوت الحق عندما يصمت الآخرون،
كونوا ضمير القانون عندما يُساء استخدامه،
أهنّئكم من صميم قلبي وأشدّ على أياديكم، متمنيًا لكم مستقبلاً مشرقًا في عالمنا العربي الذي يتطلّع إلى جيل جديد يضعه في الموقع الذي يستحق بين الأمم.
ختامًا،
أتوجّه مجدداً بجزيل الشكر إلى رئاسة جامعة بيروت العربية ولكلّ من ساهم في تنظيم هذا الاحتفال. وأعدكم أن أظلّ على قَدَر هذه الثقة خادمًا للعِلم، ملتزما مسيرة الإصلاح، وفاعلاً لنهوض وطننا.
شكراً لإصغائكم.”


