في نادي البلدان المتخلفة أو البلدان ذات الحداثة الزائفة، يشكّل الدستور وجهة نظر وتفصّل القوانين على مقاس مصالح أصحاب القرار بالتزامن مع غياب التنشئة التراكمية على المواطنة والمفاهيم الديمقراطية. هذا هو واقع الحال في لبنان، حيث سقطت آخر ورقة تين منذ “17 تشرين” وما رافقها من انهيار متعدّد الأوجه وخرجت الى العلن عضويته في هذا النادي.
رئيس مجلس النواب نبيه بري، صاحب الباع الطويل في تبوؤ السلطة التشريعية منذ العام 1992، نموذج عن مدى إحترافية الساسة اللبنانيين في تفريغ الدستور من مضمونه أو الاجتهاد بعيداً عن روحيته. آخر ثماره كيفية إدارة العملية الدستورية لإنتخاب رئيس الجمهورية.
يكرّر بري – وآخرها ما نقلت عنه “الاخبار” في 6/4/2023 – أنه لن يدعو إلى جلسة انتخاب رئيس للجمهورية “قبل أن يظهر أمامي مرشحون يذهبون إليها”. فأي مادة دستورية تشترط ذلك؟ هل الدستور اللبناني يلزم ان يكون أي ترشيح لرئاسة الجمهورية مسجل كالترشيح للنيابة؟ هل يحدّد حداً ادنى لعدد المرشّحين كيف تفتتح الجلسة؟
فإن كان عدم إغلاقه محضر الجلسة الاولى لانتخاب الرئيس – حيث يحتاج اي مرشح الى ثلثي الاصوات اي 86 صوتاً من أصل 128 – بعد تطيير فريقه النصاب لقطع الطريق على الجلسة الثانية يشكّل “إلتفافاً” على روحية المشرّع الذي لم يتصور وجود عقل تعطيلي بهذا الاحتراف، فإن إِشتراط الرئيس بري وجود مرشحين واضحين للدعوة الى جلسة إنتخاب هو “سلبطة” سافرة على الدستور.
ثم يتنصّل الرئيس بري من مسؤوليته التعطيلية بالقول: “فرنجية ينطلق من 54 صوتاً، وأقول للآخرين: ليأتوا إلينا بمرشح لديه أصوات أكثر أو أقل كي أحدد موعد جلسة انتخاب الرئيس… لا مرشحين عندي بمن فيهم من رشحته لم يعلن بعد ترشحه. الأمر عائد إليه وينتظر التوقيت المناسب وهذا حقه. يريد فرنجية ترشيحاً مجدياً وليس للاستهلاك”. فهل فات الرئيس بري أن ثمة مرشّحاً كامل الاوصاف – ومنذ الجلسة الاولى – هو النائب ميشال معوض والذي حصد بالصندوق نحو 45 صوتاً أحياناً؟! هل ترشيحه لفرنجية -الذي لم يترشح حتى اللحظة – يعفيه من مسؤوليته كطرف سياسي ويعكس “جدية” الثنائي؟! إنه “التذاكي” السياسي.
الاهم يصّر الرئيس بري على نظريته ويكرّر أن “المشكلة مارونية – مارونية” ويستطرد هذه المرة قائلاً: “منذ ما بعد شارل دباس أول رئيس للبنان وكان أرثوذكسياً أصبح الموارنة يختلفون في ما بينهم على انتخاب الرئيس الماروني. ليدلّني أحد على انتخابات رئاسية لم يسبقها خلاف ماروني – ماروني”.
هل يجوز لرئيس مجلس نواب أن يلجأ الى زواريب الطوائف ويحرّض على مكوّن مذهبي؟!
هل يليق به أن يدفع بإتجاه زرع الشقاق بين المذاهب المسيحية؟!
هل المطلوب ان يكون الاصطفاف مذهبياً على شاكلة ما يمارسه “الثنائي”، فنضرب الحد الادنى من مقومات الممارسة الديمقراطية ويفرض الموارنة رئيساً على باقي المكونات كما يفعل “الثنائي” الشيعي في رئاسة مجلس النواب حيث لا إنتخاب بل تبليغ بإسم الرئيس؟!
هل الصراع اليوم ماروني – ماروني فعلاً أم سياسي بين مشروعين؟!
هل تعطيل الاستحقاق الرئاسي عام 2014 لسنتين ونصف السنة كان بسبب الصراع الماروني – الماروني وبقوة الجنرال ميشال عون الذاتية أم بسواعد “الثنائي”؟ ( عدم تصويت بري لعون لا يعفيه من مسؤوليته عن التعطيل يومها كرمى لرغبة “حزب الله).
ألا يشكّل توصيف الرئيس بري لهذا الصراع إهانة حتى لمرشحه سليمان فرنجية الذي لطالما جاهر انه مرشح “الخط” لا مرشح الموارنة؟! إنها “سلبطة” مذهبية بإمتياز.
أعلنها جهاراً معاون الرئيس بري السياسي النّائب علي حسن خليل في حديث للـmtv في 24/1/2023 حين قال: “اذا جمع رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية 65 صوتاً من دون الكتلتين المسيحيتين، سنمضي به، فأولويتنا التوافق لكن عندما تصبح المعركة معركة أرقام فكل طرف يقوم بمصلحته”. إذن، كي يحرف بري الانظار عن تعطيل فريقه السياسي المتعمد للإستحقاق الرئاسي لإخفاء فشل بإيصال فرنجية الى بعبدا يدعي زوراً ان الخلاف ماروني – ماروني. إنه “التذاكي” السياسي.
أبعد من “السلبطة” الدستورية والمذهبية، هل تكرار الرئيس بري القول ان المشكلة مارونية – مارونية نجم عن حقد دفين لدى بعضهم ضد “المارونية السياسية” او من تداعيات “المارونوفوبيا”؟