شحادة: نعيش في زمن التّحوُّلات العميقة

kamal

كتب روي أبو زيد في صحيفة “نداء الوطن”:

يُعتَبر لبنان من أكثر البلدان تطوّراً في قطاع التعليم نظراً إلى اعتماد نظام ثلاثيّ اللّغات (عربيّة، إنكليزيّة وفرنسيّة) في المدارس الحكوميّة والخاصّة، فضلًا عن مواكبة المناهج للمستجدّات وسبل التطوّر في القطاعات كافّة. كما تخضع المناهج لوضع المعايير من قِبَل المركز التربوي للبحوث والإنماء (CRDP) التابع لوزارة التربية، بهدف تطوير المواطن معرفيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.

وفي هذا السياق، يشكّل دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج التربوية اللبنانية فرصة استراتيجية لإعداد أجيال مجهّزة لاقتصاد المعرفة، كما يحمل إمكانيّات هائلة تهدف إلى دعم المعلّمين، تجهيز الطلّاب للدخول إلى عالم رقمي متغيّر وبناء مجتمع يواكب التطوّر الحاصل ويساهم في تعزيز هذا التقدّم للمساهمة بنشر الخير العام.

لكن ما هي التحديّات التي تترافق مع دمج التطوّر التكنولوجي في المناهج التربويّة؟ وما هي الخطوات المتّبعة لدرئها؟

شحادة: لضرورة الوعي في التعاطي مع الذكاء الاصطناعي

يشير وزير المهجرين ووزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي الدكتور كمال شحادة إلى “أننا نعيشُ في زمنٍ من التّحوُّلاتِ العميقةِ، يقودُها الذكاءُ الاصطناعيُّ. ولم تَعُدْ هذهِ الثّورةُ التكنولوجيّةُ خياراً، بل واقعاً يَفرِضُ نفسَهُ على أنظمتِنا التربويّةِ والاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ”. ويضيف: “لهذا السبب أُنشئت في لبنان وزارةُ الدولةِ لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتعهدت الحكومة ببيانها الوزاري بأن تصبحَ حقيبةً وزاريةً مستقلة لا وزارة دولة فحسب، من شأنِها مواكبةِ التطوراتِ التكنولوجية، وهذا ما أكده رئيس الحكومة نواف سلام في دولة الإمارات العربية المتّحدة الأسبوع الفائت”.

ويرى شحادة في حديث أنّ “الذكاء الاصطناعيّ يساعد في تخصيصِ التّعلُّمِ وَفقَ حاجاتِ كلِّ طالبٍ، ويُخفِّفُ الأعباءَ الإداريّةَ عن المُعلّمينَ، ويُسهِّلُ وصولَ التّعليمِ إلى شرائحَ أوسعَ، ولا سيّما لذوي الاحتياجاتِ الخاصّةِ. كما يُوفّرُ أدواتٍ مُتقدِّمةً لرَصدِ الأداءِ وتقديمِ مراجعةٍ دقيقةٍ تُسهمُ في تطويرِ العمليّةِ التعليميّةِ”.

ويشير شحادة إلى ضرورة “إعدادِ جيلٍ يمتلكُ الأدواتِ اللازمةَ لعصرٍ جديدٍ، جيل يَفهمُ البياناتِ ويُحلِّلُها، جيل يَعي أهميّةَ الأخلاقِ في استخدامِ التكنولوجيا،جيل مُدرِك لتحدِّياتِ الانحيازِ، وللتّأثيرِ المجتمعيِّ للذكاءِ الاصطناعيِّ،جيل يَصنَعُ التكنولوجيا، لا يَستهلكُها فقط”.

ويلفت شحادة إلى أنّ “هذا التحوّل الرقمي يعصف بالعالم أجمع ولا سيّما بالبلدان المحيطة بلبنان، ومن أبرز الأمثلة ما أعلنتْهُ حكومةُ دولةِ الإماراتِ العربيّةِ المتّحدةِ، باعتمادِ الذكاءِ الاصطناعيِّ كمادّةٍ إلزاميّةٍ من الروضةِ وحتّى الصّفِّ الثاني عشرَ، بدءاً من العامِ الدراسيِّ 2025 – 2026″، مشدّداً على أنّ “اللبناني يبقى رائداً في مجال التكنولوجيا، إذ يسافر حوالى سبعمئة مهندس شهريًّا إلى الدول العربيّة لإعادة برمجة برامجها التكنولوجيّة”.

كما يشدّد على “أنّنا في المُقابلِ، نُواجِهُ تحدِّياتٍ عدّةً. أولاها عدمُ توفّرِ إمكانيةِ الوصولِ إلى التّكنولوجيا للجميع بشكل متساوٍ، ما قد يُعمِّقُ الفجوةَ بين الطّبقاتِ الاجتماعيّةِ. كذلك، فإنّ معظمَ التّطبيقاتِ تُطوَّرُ في بيئاتٍ ثقافيّةٍ مختلفةٍ، ما قد ينتجُ عنها انحيازات في المحتوى والتوجه. وهنا تَبرزُ الحاجةُ لأن نكونَ مُنتجينَ ومُطوِّرينَ، لا فقط مُستَهلِكينَ، عبر بناءِ حلولٍ مبنيّةٍ على ثقافتِنا وقِيَمِنا”.

ويتابع: “لا يَقِلّ خطرُ الخصوصيّةِ أهميّةً، إذ يُنتِجُ استخدامُ الذكاءِ الاصطناعيِّ قواعدَ بياناتٍ ضخمةً، قد تتعرّضُ للقرصنةِ، ممّا يَستدعي تَعزيزَ البُنيةِ التحتيّةِ للأمنِ السيبرانيّ”، موضحاً أنّ “الإفراطَ في الاعتمادِ على هذهِ التّقنيات قد يُقَلِّلُ من التّفاعلِ الإنسانيِّ داخلَ الصفِّ، وهو عنصرٌ أساسيٌّ في التّربيةِ، ومن أولوياتِ الوزارة اليوم وضعُ التشريعاتِ والقوانينِ والآلياتِ لحماية خصوصيةِ البياناتِ والمعلومات، وتمكّن لبنانَ من الحصولِ على أمنٍ سيبرانيّ فعّالٍ”.

ويختم شحادة “علينا أن نتعاملَ مع الذكاءِ الاصطناعيِّ بوعيٍ ومسؤوليّةٍ، واضعينَ ضوابطَ أخلاقيّةً وتشريعيّةً تَضمَنُ بقاءَ الإنسانِ في قلبِ التّطوّرِ، لا على هامشِهِ، ولا يكونُ الإنسانُ وخصوصاً الطالب ضحيّتَه”.

الأب نصر: تربية رقميّة في مدارسنا بحلول 2030

يشير الأمين العام للمدارس الكاثوليكيّة في لبنان الأب يوسف نصر إلى أنّ “رؤية 2030 للأمانة العامة تكمن في التطلّع إلى تربية رقمية، أي تحويل مدارسنا تدريجياً كي تحوي تربية رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا”، معتبراً أنّنا “نشهد عصر التحوّل، ومن أهم هذه التحوّلات ما يحصل في التربية وكيفيّة إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المناهج التربوية” معتبراً أنه “علينا مواكبة هذا التطور لتدارك الإيجابيات والتنبّه للسلبيات”.

ويرى الأب نصر أنّ “هذا التقدّم يتيح لنا تحقيق المزيد من الشخصانيّة في التعليم، بحيث يساعد المعلّم على الدخول بعلاقة مباشرة مع المتعلّم بدءاً من الإندماج بحيث يُصبح المسار التعلّميّ مخصّصاً لكلّ طالب بحسب قدراته واهتماماته، مروراً بالتحفيز لدى المتعلّمين، ووصولاً إلى تعزيز سبُل الإبداع ما يساهم في فتح آفاق جديدة للاكتشاف والإبداع ويرسّخ حبّ التعلّم وينمّي روح المبادرة لدى المتعلّمين”.

ويلفت الأب نصر إلى أنّ “التربية مدعوّة كي تستفيد من التطور التكنولوجي وتدمجه كي نحصل على تعليم منتج ونافع”، مشدّداً على أنّه “بات من الضروريّ أن نواكب هذا التحوّل، وأن نُدخل هذه الأدوات الجديدة إلى مدارسنا، لا بشكل عشوائيّ، بل ضمن ضوابط واضحة ومحدّدة تحافظ على خصوصيّة المتعلّم ونموّه الإنسانيّ، في إطار أخلاقيّ يحمي القيم التي لطالما شكّلت جوهر رسالتنا التربويّة”.

من جهته، يعتبر مسؤول قسم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكيّة جوزيف نخلة أنّنا بتنا نعيش في عصر لا يشبه ما قبله يجعلنا نطرح أسئلة جوهرية: كيف نوجّه الذكاء الاصطناعي ليكون أداة للعدالة لا التمييز؟ كيف نميّز المعرفة من الاحتكار ونضمن أن تكون مفتوحة ومتاحة لكل انسان؟”.

ويشير إلى أنه “علينا ان نختار من هذا الجديد ما يخدم الإنسان، إذ نريد أجيالًا تفهم الذكاء الاصطناعي لا تستخدمه فقط”، لافتاً إلى “ضرورة بناء إنسان حرّ، ناقد مبدع ومتعاطف، إذ تبقى معادلة الذكاء الاصطناعي دقيقة بين التقدّم والضمير”، مضيفاً: “فلنطلق من هذا المنبر صرخة واحدة: نريد تكنولوجيا تقدّم لا تفرّق، تخدم الإنسان ولا تستعبده”.

وكانت الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية في لبنان أطلقت الشهر الفائت النسخة التاسعة للمعرض التكنولوجي التربوي EDUTECH والذي حمل هذا العام عنوان “من الطبشورة إلى التعليم الذكي”، برعاية وحضور الوزير شحادة.

وطرح المؤتمر خطّة تربويّة لتعزيز التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في المستقبل التعليمي مع الحفاظ على الإنسان والسعي إلى تطويره لا تهديم قيَمه وفكره.

ولفت رئيس اللّجنة الأسقفية في المدارس الكاثوليكية المطران حنا رحمة في كلمته حينها إلى “ضرورة الحفاظ على التوازن الدقيق بين الاستفادة من الإمكانيات الهائلة للذكاء الاصطناعي في تطوير العملية التربوية وبين الحفاظ على الجوانب الإنسانية الأساسية التي لا يمكن للآلة أن تحل مكانها”.

وحذّر المطران رحمة من “المخاطر المحتملة للإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التربية”، مشدّداً “على أهمية الدور الإنساني للمعلّم كقدوة وملهم، وكقيمة فريدة للتفاعلات الاجتماعية والعاطفية في نمو الطفل وتطوّره الشامل” معتبرًا أنه من “الضروري في هذا العصر التكنولوجي التمييز بين الخير والشر”، مؤكداً أنّ “المعلّم سيبقى الحجر الأساس لأن الآلة لا تعلّم الرحمة ولا تنمّي الضمير”.

إسحق: المنهج الجديد نهاية الصيف الحالي

تلفت رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء هيام إسحق إلى أنّ ” الذكاء الإصطناعي دخل في مفاصل الحياة كافّة، وأصبحنا أمام حقيقة علينا أن نتعاطى معها بكل وعي ومعرفة، وأن نكتب مناهج متسلسلة ومترابطة، تركز على الكفايات المستعرضة والكفايات الأساسية بصورة متكاملة”.

وتضيف إسحق أنّنا “نعمل على التدرّج في المحتوى بين السنوات التعليمية، والتشبيك بين الكفايات الخاصة المطلوبة لكل مادة وما يُسمى بالكفايات المستعرضة العابرة للمواد، وهي تسع كفايات: التفكير النقدي، التفكير الإبداعي، التواصل والتعاون، المواطنة، إدارة الذات، الكفاية الرقمية، الكفاية الأخلاقية، والكفاية الصحية والبدنية. ومن شأن هذا التشبيك أن يسمح للطالب بالتأقلم مع العالم المتغيّر ومواجهة تحديات العصر الجديد”.

كما تشدّد على “السّعي للوصول إلى منهج دامج مبنيّ على المقاربة بالكفايات ومرتكز على التعليم التمايزي (استراتيجية التعلّم لدى كل طالب)، فضلًا عن تعزيز التقويم التكويني ما يسمح للمعلّم بمرافقة الطالب في مراحل التعلّم كافة”، موضحةً أنّ “الذكاء الاصطناعي يكشف مواطن الضعف لدى كلّ طالب من خلال تمارين تفاعلية، لذا سيحاكي المنهج الدامج الجديد تلامذة لبنان بمختلف قدراتهم الاستيعابيّة، كما سيتوجّه إلى ذوي الاحتياجات الخاصّة والصعوبات التعلميّة بهدف إشراكهم بنجاح في الخطّة التربويّة وكفاياتها”

وتشير إسحق إلى “أننا نعمل بالتعاون مع منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) كي نطلق منصّة تعمد إلى محو الأمية الرقمية وإدخال الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامه في التعليم”، موضحةً أنّ “هذه المنصّة ستشكّل مرجعيّة للكفايات الخاصة والعامة والمستعرضة، إذ تساعد المتعلّمين على تعزيز التخطيط للمنهج التعليمي، كما تتيح لهم التفاعل مع الأدوات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي الحديثة، فضلًا عن تقويم وتقييم أدائهم التعليميّ”.

وتؤكد عمل المركز التربوي على “الكفاية الأخلاقية كي تُستعمل التكنولوجيا بطريقة مسؤولة لا تقوم بالمساس بأفكار وعادات وتقاليد الطالب والمعلّم. بخدش المشاعر والأخلاق والحفاظ على أفكار الناس وعاداتهم وأيديولوجياتهم”، لافتةً إلى “ضرورة اعتماد الابتكار الحذر، من خلال تبني الذكاء الاصطناعي كشريك قيّم في رحلة التربية، مع الحفاظ دائماً على جوهر الإنسان في هذه العملية. إذ يبقى الذكاء الاصطناعي خادماً الإنسان في مجال التربية، وليس العكس”.

وإذ تشير إسحق إلى أنّ “المنهج الجديد يقضي بتدرج الكفايات من الحضانات للصف الثالث وتدرّج المحتوى المطلوب بحسب الكفايات”، تكشف أنّ “كتابة المنهج قد تصل إلى خواتيمها نهاية الصيف ليتمّ بعدها بعام واحد تزويد المؤسسات التربوية بالموارد المطلوبة في التعليم”.

إلى ذلك، يبقى الذكاء الاصطناعي في التربية فرصة لا تعوّض، من خلالها تتحوّل الصفوف من مساحة معلومات إلى فضاء تفاعليّ، عملي، ومؤثر. لكن من الضروري تعزيز التفكير النقدي والمسؤول في كيفية دمج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة التعليمية، مع التأكيد على الشفافية والعدالة في استخدام هذه التقنيات. إذ لا يمكن للآلة أن تغرس القيم الأخلاقية، أو تعلّم التعاطف، أو تنمّي الذكاء العاطفي بنفس الطريقة التي يفعلها الإنسان. لذا من الضروري بناء منظومة تعليمية تجمع بين التطوّر التكنولوجي والمفاهيم الإنسانية، حيث تلتقي قوة الذكاء الاصطناعي بالروح التربوية لترسيخ مستقبل متطوّر يتماشى مع قيمنا ولا يتخلى عنها.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: