"شعبوية" نحاس أم "عقده" الإقتصادية

IMG-20220506-WA0016

منذ 17 تشرين 2019، سقط حجاب الاستدانة والسلف والهندسات المالية وتثبيت سعر صرف الليرة والفوائد المرتفعة وظهرت الدولة اللبنانية على حقيقتها دولة فاشلة وفاسدة ومترهلة ومفلسة.

مؤشرات هذه الحقيقة، كان اللبنانيون بدأوا يتلمسونها قبل سنوات حيث لم يعد باستطاعة الدولة تسديد مستحقاتها للمستشفيات ومؤسسات الرعاية على سبيل المثال أو حين كانت تأخرت بالدفع للمتعهدين أو حين راحت الفوائد على الاموال ترتفع بشكل غير صحي أو حين إنهار النمو من 8 نقاط الى ما دون الصفر عام 2011 خلال بضعة اشهر مع وصول حكومة "القمصان السود" التي فرضها "حزب الله" والـ One Way Ticket التي قطعها فريق "8 آذار" على لسان العماد ميشال عون للرئيس سعد الحريري وهو على اعتاب "البيت الابيض" في واشنطن.

اكثر من سنتين ونصف السنة مضت والانهيار مستمر وهو صنّف الثالث عالمياً منذ 150 عاماً. إنهيار لسوء حظ اللبنانيين ترافق مع ظهور جائحة كورونا ثم تزامن مع الحرب الروسية على أوكرانيا التي غيرّت الاولويات الدولية سياساً وإجتماعياً.

أما محلياً، فالانهيار تمّ في عهد مدمنٍ على الانكار لم يعرف له لبنان مثيل، عهد العماد ميشال عون وتياره وحليفه "حزب الله"، عهد سلطة حاكمة ومتحكمة بأعناق اللبنانيين ومستقبلهم لم تتورع عن تعميق هذا الانهيار عبر عرقلة أي خطوة إنقاذية والتفنن بهدر الوقت. سلطة شرّعت الحدود السائبة عبر عراضات استخدام المحروقات من ايران وأصرّت على قضم الاحتياطي الالزامي عبر سياسات دعم مدمّرة وراوغت في التفاوض مع صندوق النقد الدولي هرباً من تحمل مسؤولياتها في السير باصلاحات موجعة حكماً.

كما ان إنفجار بيروت في 4 آب 2019، زاد "طين الانهيار بلّة" أكان عبر حجم الخسائر البشرية والمادية أو عبر تداعياته الاقتصادية وأثاره النفسية. فهذا الانفجار صنف من أكبر الانفجارات غير النووية في كل العصور وحلّ في المركز الرابع بعد انفجار قنبلة "ليتل بوي" التي ألقيت على هيروشيما عام 1945، ثم تلاها انفجار هاليفاكس في كندا عام 1917، وانفجار أوباو بألمانيا عام 1921.

كل هذه المشهدية التي تسكننا كلبنانيين منذ 2019، كانت حاضرة في ذهني وانا اسير وصديقي من الجميزة الى "مار مخايل" حيث رحت أتفرس بشراهة صخب الحياة في هذا الشارع وعشق السهر على وقع الصيحات والقهقهات التي ترافق الموسيقى التي تصدح متحدية صمت الموت المزروع في كل شبرٍ في المكان وتحت أعين الاهراءات المترنحة بين ذاكرة جماعية وطمس مبرمج لما إقترفت أيديهم.

كنا نسأل ما سر هذا اللبنان الذي يسكع ربما ولكن لا ينهزم أمام هول الصعاب؟! هل هذا الشرخ الحاد بين أناس تموت ببطء جوعاً او مرضاً أو بسرعة فائقة خلال دقائق في مراكب الموت وبين أناس تسهر وتمرح يشكّل "عقدة ذنب" أم مؤشراً صحياً لا يمكن شرحه إلا بإعتباره ناجماً عن dna الشعب اللبناني الذي يعشق الحياة ولو أنه غارق في مستنقع موت؟!

وإذ فجأة، تطل بين صفوف السيارات التي تسير ببطء سيارة van ترفع صورة شربل نحاس ورفاقه الثلاثة المرشحين في دائرة بيروت الاولى. الامر غير مستغرب ونحن على مسافة ساعات من فتح صناديق الاقتراع في الاغتراب، لكن اللافت حجم الشعبوية والذهنية "الالغائية" و"الحقد الطبقي" الذي تجسد في رفع شعار: "تغطية صحية شاملة وتعليم اساسي مجاني على حساب اصحاب المصارف".

التغطية الصحية الشاملة والتعليم الاساسي المجاني حق إنساني لا بل واجب وطني، اعتاد اللبنانيون على استحضاره من قبل المرشحين في كل انتخابات وقلة ربما من سعوا لتطبيقها آخرهم نائب رئيس مجلس الوزراء السابق غسان حاصباني الذي اعاد إحياء مشروع التغطية الصحية الشاملة وحدّثه كي يصبح قابلاً للتطبيق العملي وإبتكر اساليب لتمويله وتابع شخصياً مروره في اللجان لكن حين استقالت الحكومة تفرّمل المشروع.

لكن الخطر هو ابعد من منطق تحميل المسؤوليات حيث يدعو نحاس الى ان يتم تأمين ذلك على "حساب اصحاب المصارف"، انه خطر على هوية لبنان الاقتصادية ووجهه الليبرالي.

لا احد يبرئ المصارف التي هي شريك في تحمل المسؤوليات مع الدولة اللبنانية المتمثلة بالسلطة الحاكمة ومع مصرف لبنان، لكن الاحكام المسبقة لا تبني وطناً بل المطلوب اعادة هيكلة المصارف وخلق الاطر الكفيلة للتوزيع العادل للمسؤوليات والخسائر من جهة ولتلافي الخلل في الادارة المالية والاقتصادية الذي اوصل لبنان الى الانهيار.

لذا المطلوب أولاً من اللبنانيين حين يتوجهون الى صناديق الاقتراع ان لا يقعوا في فخ الشعارات الشعبوية التي تدغدغ وجعهم وألا يُؤخذوا بمن يتعمّد حرف الانظار عن جوهر المشكلة ويركّز على النتائج المالية والاقتصادية لها، المطلوب ليس فقط التصويت العقابي لمن اعاق قيام دولة العدالة والمؤسسات والمواطنة وجعلها رهينة "حزب الله" واجندته ومشروعه بل ايضاً التصويت الايجابي لمن يملك اكبر قدر من المقومات التي تساعد على قيام هذه الدولة من حيث القدرة والخبرة والحجم التمثيلي.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: