يعود رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر في مقاربته للإشتباك القضائي القائم راهناً بين المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار والمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، إلى النصوص القانونية وتسلسل الأحداث السياسية والقضائية المسجّلة منذ الأيام الأولى على جريمة انفجار مرفأ العاصمة، فيؤكد أن الطبقة السياسية الحاكمة لم تستوعب حجم هذا الانفجار وقررت تسليمه الى تحقيق داخلي وليس تحقيقاً دولياً، " فبعد نصف ساعة فقط على وقوع الانفجار، أعلن رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون بأننا لا نريد تحقيقاً دولياً لأنه سوف "يميّع" التحقيق، وأن حقيقة انفجار المرفأ ستتظهر خلال خمسة أيام"، والكلام بحرفيته للرئيس عون.
ما ورد على لسان الرئيس عون، دفع ب" الريس" صادر الى التأكيد على أن البدايات الخاطئة ستؤدي حكماً الى نتائج واستنتاجات خاطئة"اذا كان من الأفضل إحالة هذه القضية الى لجنة تحقيق مستقلة تحت إشراف الأمم المتحدة، ويمكنها أن تنجز تقريرها خلال ستة أشهر على أبعد تقدير"، على ما يقول صادر الذي أشار الى "لغطٍ كبير" أحاط بالتحقيق العدلي لناحية الالتباس الذي خلقته الطبقة السياسية لدى الرأي بين التحقيق والمحاكمة.
صادر يأخذ على الطبقة السياسية رفضها للتحقيق الدولي بالجريمة، "الشباب عندنا أبطال الى حد أنه بعد خمسة أيام ستظهر الحقيقة"، العبارة للرئيس عون وأصداؤها لا تزال تتردد في أذهان سامعيها.
القاضي صادر استذكر التحقيق الدولي في أصعب قضية مرت في تاريخ البشرية التي هي جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، "فلجنة التحقيق الدولية تسلمت الملف بعد ثمانية أشهر على وقوع الجريمة لتصدر بعد سنتين تقريرها الذي الذي أوردت فيه أسماء المتهمين، ومَن خطط ومَن نفذ ومَن شارك في الجريمة، وهو أمر يدخل في خانة " الإعجاز" في جريمة إرهابية بهذا الحجم، مع الإشارة الى أن جلسات المحاكمة امتدت على مدى ١٥ عاماً".
الريس صادر يستدرك ليشير إلى أنه عندما قال الرئيس عون إن التحقيق الدولي "سيميّع" الحقيقة، فهو كان يقصد المحاكمة الدولية وليس التحقيق الذي استغرق عامين.
وفي مقارنة ما بين التحقيق المحلي والتحقيق الدولي، تحدث صادر عن إمكانيات هيئة التحقيق الدولية القادرة على الإستعانة بمختبرات حديثة وبالوسائل التكنولوجية المتطورة، وبأفضل المحققين، إضافةً إلى تعاون المجتمع الدولي معها المجبر على التجاوب مع ما تطلبه هذه اللجنة. وفي هذا السياق، أورد القاضي صادر مثلاً لا لبس حوله عندما طلب لبنان صور الأقمار الإصطناعية التي كانت تقوم بدورتها فوق لبنان عصر الرابع من آب، و هو لم يتلقَ أي جواب من أية دولة حتى اليوم"،مضيفاً "عندما تطلب لجنة التحقيق الدولية هذه الصور، فسيكون الجميع مجبرين على التعاون معها لأنها تحظى بدعم الأمم المتحدة.
وعليه، أضاف صادر، فإن جريمة انفجار المرفأ قد أحيلت من قبل مجلس الوزراء الى المجلس العدلي وتمّ تعيين محقق عدلي هو القاضي فادي صوان، بقرار من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، علماً بأن المجلس العدلي هو هيئة قضائية تتولى القضايا الخطيرة الكبرى.
أما عن الإشكال القضائي الواقع اليوم، فقد بدأت مؤشراته بالظهور من خلال تساؤلات وانقسام في الرأي حول ما إذا كان المحقق العدلي يخضع لطلبات الرد، لأن قانون أصول المحاكمات الجزائية لا يجيز طلبات الرد للقضاة أمام المجلس العدلي الذي هو أعلى هيئة قضائية، ولكن قانون أصول المحاكمات الجديد، كما يقول صادر فقد نصّ على تعيين قضاة المجلس العدلي بمرسوم، وتعيين قضاة رديفين لهم ليحلوا مكان القاضي الأصيليين في حال التقاعد أو الوفاة أو طُلب الرد ضد أحدهم، وبالتالي فإن القانون الجديد أجاز التقدم بطلبات الرد في وجه أعضاء المجلس العدلي.
وعن الواقع القضائي اليوم، أشار صادر إلى أن البعض اعتبر أن المحقق العدلي هو جزء من "تركيبة" المجلس العدلي، والبعض الآخر وجد أن أعضاء المجلس العدلي يُعيّنون بطريقة معينة والمحقق العدلي بطريقة أخرى، وبالتالي فإن ما يسري على القضاة أعضاء المجلس العدلي، لا يسري على المحقق العدلي الذي لا تقبل قراراته أي طريقة من طرق الطعن، أي أن النص يقول إن "قرارات القاضي البيطار، لا تقبل أي طريقة من طرق الرد".
ومن ضمن هذا السياق، لفت صادر إلى أنه "عندما وصل القاضي صوان إلى مرحلة استجواب مَن يعتبرون أنفسهم فوق القانون، من وزراء ورئيس حكومة، قامت "القيامة" عليه وقدموا طلب ردّ ضده أمام محكمة التمييز، التي قررت في حينه أنها تملك الصلاحيات المختصة للنظر بطلب الردّ، أي ردّ المحقق العدلي، وهو ما قاد إلى
حزورة قضائية نواجهها اليوم، كان اللغط الأول فيها عندما
ردت صوان وسحبت الملف منه، ما دفع للوصول إلى الإشكال الحالي، كون محكمة التمييز اعترفت أنه يجوز ردّ المحقق العدلي".
وتابع صادر أن القاضي طارق البيطار حلّ مكان صوان، فواجه المشكلة نفسها، أي أنه "عندما وصل الى مرحلة استجواب رئيس الحكومة ووزراء، من الذين يعتبرون أنفسهم فوق القانون، توالت طلبات ردّ في وجهه، فخضع ضمناً لرأي محكمة التمييز، ووافق على طلبات رد ضدي، لأنه اعتبر أن محكمة التمييز ستنصفه، وبدا وكأنه وافق منذ البداية أنه يمكن ردّ المحقق العدلي وبالتالي، لم يأخذ موقفاً اعتراضياً في حينه وقال لهم: "بلطوا البحر ما فيكم تردوني".
صادر أشار الى أن القاضي البيطار خضع لطلبات الردّ، وهذا ما جعله يرفع يده عن القضية، علماً أن ما حصل هو توزيع أدوار بين المُشتبه بهم، عبر تقديم طلبات الردّ أي إساءة استعمال حقّ التقاضي،
أي أنه بعد صدور طلب نتيجة الردّ من أحدهم، يبادر الثاني إلى طلب ردٍ جديد حتى عطلوا التحقيق بالكامل منذ نحو من سنة".
ورداً على سؤال حول ما إذا القاضي البيطار كان قادراً على الرفض في ذلك الوقت، علماً أنه كان سيتعرّض للحملات نفسها التي يواجهها اليوم، قال صادر إن "الموقف الذي يأخذه البيطار اليوم، هو مغاير للموقف الذي اتخذه في السابق، والذي عبّر عن ضعف، لأنه وافق أن يخضع لرقابة محكمة التمييز".
وعن الأطراف التي تتحمل مسؤولية تعطيل وشلّ التحقيق العدلي، اعتبر صادر أن "السلطتين التشريعية والتنفيذية قررتا عرقلة مسار التحقيق العدلي أولاً ثم انطلق "سيرك" طلبات الرد ثانياً، وتلاه تقديم اقتراح قانون ينص على أن قاضي التحقيق العدلي يمكن أن يخضع للردّ، ويواصل عمله في الوقت نفسه، بانتظار أن تقرر محكمة التمييز ما إذا كانت ستُبقيه أم لا، مع العلم أن هذا الأمر بحدّ ذاته، لا يوقف عمل المحقق العدلي إلاّ إذا اقترن بقرارٍ من هيئة المحكمة بكفّ يده".
وعن التشابك بالصلاحيات الحاصل اليوم على صعيد القضاء، أوضح صادر أنه "عندما رأى القاضي البيطار أن هناك مَن يريد وقف التحقيق بالقوة، "شرب حليب السباع" وبدّل رأيه بالإتجاه الصحيح، ولو حصل ذلك في السابق، لم يكن لينجح أي شخص أن يعترض، ولكن عندما غيّر رأيه بعد عام، حصل الإشتباك، وكان من الواجب أن يعلن البيطار أن طلبات الردّ ضده لا تُقبل، والمهم أنه عاد ووضع يده على الملف وقرر الإدعاء على قضاة وبعض السياسيين.
ولكن هل من صلاحية للقاضي عويدات بالإدعاء على المحقق العدلي؟ أجاب صادر: "مبدئياً المجلس العدلي هو الذي يقول للمحقق العدلي أنه لا يحق له العودة وليس عويدات، لأن
مدعي عام التمييز هو سلطة ملاحقة، وليس سلطة حكم، ومن هنا أتى الإشكال، أي أن عويدات قال للبيطار إنه لا يملك أية صلاحيات والبيطار ردّ بالإدعاء عليه، ووصلنا اليوم إلى "العصفورية القضائية"، التي لا يوجد فيها مَن يملك الحكمة ليتخذ الموقف الصحيح، لذا يجب ترك القرار للقضاء المختص أي المجلس العدلي".
