“السعي وراء المجد – تاريخ أوروبا من 1654 إلى 1865” كتاب للمؤرخ البريطاني تيموثي بلانينج يستحضر فيه واحدة من أكثر الفترات الإستثنائيّة في التاريخ الأوروبي، بداية مع وضع القارة المنكوبة والمعزولة بعد حرب الثلاثين عاماُ، إلى الفترة الديناميكيّة مع اندلاع الثورة الفرنسيّة في العام 1789 وحروب نابوليون بونابرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر.ينقل بلانينج في كتابه مشهديّة حياة الناس العاديين في حينه، في ظل حكم الشخصيات المهيمنة في ذاك العصر من لويس الرابع عشر مروراً بفريدريك العظيم وصولاً إلى نابليون، ويستكشف حقبة من التغيير والنمو غير المسبوق ثقافياً وسياسياً الذي شكّل مجتمعات واقتصادات دول عظمى صلبة وقويّة.
ولكن لماذا استحضار هذا الكتاب اليوم؟ لأنه مثال يجب علينا الإطلاع عليه في خضم التحوّل الكبير الذي نشهده في البلاد، فهو يؤكد لنا أننا لا يمكن أن نفهم التحوّلات المصيريّة في تاريخ الشعوب والأمم، إلا إذا عملنا على العودة إلى جذور الظواهر المتناحرة ثقافياً وفكرياً وفي بعض الأحيان مجتمعياً، لنكتشف بذلك التفاعلات الحيويّة ما بين هذه الظواهر، ولندرك أن ما يحصل عندنا اليوم يشبه بشكل من الأشكال ما حصل في أوروبا في “عصر الأنوار”. فكل من يعتقد أن هذه الحقبة الأساسيّة في تاريخ أوروبا والبشريّة انبثقت فجأة من دون مقدّمات مخطئ، لأن الدراسة التاريخيّة التحليليّة لا تؤمن بمثل هذه الاستنتاجات الجزئيّة والإنقطاعيّة.
بالعودة إلى ما هو حاصل اليوم في البلاد، فإذا ما تمعّنا في دراسة التغيّرات الإجتماعيّة والظواهر الثقافيّة والسياسيّة بعمق نجد أن 17 تشرين لم تأتِ من عدم وبشكل فجائي بسبب فرض تعرفة ماليّة على تطبيق واتسآب، إنما هي نتاج عمل تغييري طويل في مسار مجتمع على الصعد كافة السياسيّة والثقافيّة والإجتماعيّة. تماماً كما أن 14 آذار أيضاً لم تنبثق فجأة من بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإنما أتت نتاج مسار نضال طويل وشاق مليء بالإضطهاد والتعذيب والتنكيل.لا يمكن أبداً أن نفصل ما بين التحوّلات الكبرى لأنها مترابطة بشكل وثيق، ويمكن أن نعود بدراسة ترابطها التاريخي إلى القرن السادس مع بدء النضال في سبيل الحريّة وأول واقعة ظاهرة تاريخياً كانت في العام 517، حيث كان البطريرك ساويروس قائداً لأتباع “الطبيعة الواحدة”، وبينما كان عدد من الرهبان التابعين لدير مار مارون ذاهبين لزيارة دير مار سمعان العمودي قرب حلب، تصدّى لهم أتباع “الطبيعة الواحدة” على الطريق، وقتلوا منهم 350 شهيداً. من هناك بدأ تاريخ نضال هذه الجماعة في سبيل الحريّة، ويمكن أن نتدرّج في مراحل التاريخ كافة لندرك تطوّر هذه الحركة النضاليّة بأوجه وأسماء عدّة وتوسّع انتشارها وضم مجموعات أخرى إليها وصولاً إلى الإستقلال اللبناني ومن بعده الجبهة الوطنيّة والقضيّة اللبنانيّة ومواجهة فترة الوصاية السوريّة على لبنان و”14 آذار” وصولاً إلى “17 تشرين”.إنطلاقاً من هنا، لا يمكن لمَن انضم حديثاً إلى ركاب هذه المسيرة النضاليّة أن يقف مدّعياً أنها بدأت معه، وأنه صانع التحولات السياسيّة والثقافيّة والإجتماعيّة التي شهدناها مؤخراً في البلاد، وإنما عليه أن يحترم هذا المسار النضالي التاريخي الذي سمح له اليوم بأن يقف في ساحة ليصرخ بحريّة منادياً بما يؤمن به.
صحيح أن النضال ليس حكراً على أحد ولكن له جذور تاريخيّة لا يمكن نكرانها أبداً. وهنا يجب أن ندرك تماماً أن الأحداث الكبرى، كـ”14 آذار” و”17 تشرين”، التي تشهدها المجتمعات تساعد في تسريع المسار النضالي الذي تقوده القلة القليلة أو البقيّة الباقيّة في المجتمع في كل مكان وزمان. فهذه الأحداث الكبرى تساعد لهول فجاعتها في انضمام العامة بشكل سريع إلى المسار النضالي كردّة فعل على الظلم أو القهر أو فجاعة الحادثة موضع البحث، إلا أن هذا لا يعني أبداً أن هذه الحادثة التاريخيّة بحد ذاتها هي من أحدثت هذا التغيير المفاجئ اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، لأنه لولا المسار النضالي الذي تقوده البقيّة الباقية في المجتمع والذي تبقي من خلاله شعلة القضيّة متوهّجة في أحلك الظروف لكان تحوّل المجتمع إلى مجتمع مدجّن، ولما كانت العامة على وقع وهول الحادثة التاريخيّة انتفضت مؤيدة هذا المسار النضالي.
لذا في المحصّلة، يجب على بعض الرؤوس الحامية أن تبرد، وبعض المتنطحين أن يلازموا أماكنهم الطبيعيّة، لأن الشعلة النضاليّة لا تزال في مكانها حيث كانت دائماً محمولة بأيدي البقيّة الباقية في هذا المجتمع. كما على البعض الآخر أن يتخلى عن سطحيّته ويتعمّق أكثر في دراسة التحوّلات المجتمعيّة والسياسيّة والثقافيّة، ويركن إلى الدراسة التاريخيّة التحليليّة ليفهم واقع الأمور ويتصرّف على هذا الأساس إذا ما كان فعلاً ضنين بالمصلحة الوطنيّة العليا ويريد المساعدة في دفع المسار النضالي التاريخي الطويل في سبيل الحريّة والسيادة والإستقلال في هذه البلاد إلى الأمام.
ختاماً، نجد أنه يجب على النخبة المجتمعيّة المؤمنة بالمبادئ النضاليّة التحرّك الفوري من أجل الوقوف بوجه من أضاعوا البوصلة لإعادتهم إلى الصراط المستقيم، فصحيح أن أي استحقاق كان ومهما علا شأنه يصغر أمام المسار النضالي الطويل للقضيّة اللبنانيّة إلا أن إضاعة الفرص المتكرّرة ليست من شيم المناضلين الفعليين، فتاريخياً لم تعطِ المسارات النضاليّة فرصاً كاملة وإنما أنصاف فرص تمكّن من خلالها مناضلون حقيقيون من قلب مسار التاريخ رأساً على عقب. لذا حذار من أن يهدر علينا كلبنانيين بعض المتزمتين الإستحقاق الرئاسي لأنه نصف فرصة لن تتكرّر قريباً خصوصاً بعد أن أهدروا هؤلاء أنفسهم أنصاف الفرص السابقة.