تُجمع التقارير المالية والنفطية المتخصصة في شؤون الطاقة خلال الأيام و الساعات الماضية على تسجيل انخفاض في أسعار النفط اعتباراً من يوم الإثنين وسط استقرار الدوﻻر مقابل أغلب العملات الرئيسية، وعدم يقين بشأن الطلب العالمي وانخفاض العقود اﻵجلة لخام نايمكس الأميركي بنسبة ٠،٦% الى ٨٤.٥ $ للبرميل.
هذا الحدث اﻻقتصادي النفطي العالمي الحيوي يأتي لإلقاء الضوء مجدداً على مشكلة “عويصة” في سياسة الديمقراطيين في واشنطن الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها ضد قرار أوبيك بلاس الأخير بخفض الإنتاج بنسبة مليوني برميل، حيث شنّت واشنطن حرباً ضروس على المملكة العربية السعودية وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان بتهمة التآمر مع روسيا ضد الوﻻيات المتحدة، والوقوف الى جانب موسكو في حربها في أوكرانيا الى ما هنالك من اتهامات باطلة.مشكلة الديمقراطيين في واشنطن أنهم ﻻ يميزون جدياً بين الحليف والعدو لأنهم بكل بساطة يعانون من ارتباكات في سياساتهم وخصوصاً إزاء دول المنطقة والخليج خاصة المملكة العربية السعودية.
سبق أن شرحنا في مقالة سابقة العقدة التاريخية والعقائدية للديمقراطيين من أنظمة الحكم في الدول العربية والخليجية وتورط واشنطن أوباما في إزكاء ما سمي بالربيع العربي إبتداء من جمهورية مصر العربية، تلك العقدة التي ﻻ تزال مبطنة وراء الأنفاس وتحت الطاوﻻت والتي حاول الرئيس الأميركي جو بايدن تخطيها رغم إحاطة نفسه بصقور العداء للخليج وخصوصاً للرياض وولي عهدها، إﻻ أن ما حصل منذ قرار أوبك بلاس الأخير بخفض الإنتاج والهستيريا الجماعية التي انتابت الديمقراطيين وإدارتهم في البيت الأبيض ضد المملكة والإمارات العربية ودول الخليج، وما حكي مؤخراً عن توجه أميركي للتخلص من ولي العهد طرح أكثر من علامة استفهام ليس حول خلفية السياسة الأميركية الديمقراطية الحاقدة على السعودية، بل حول الصحة المعنوية والبدنية للرؤية الأميركية للعلاقات الدولية وقدرة التمييز بين الصديق والحليف والعدو.إيران التي باعت روسيا درونات الموت للروس ﻻستخدامها ضد أوكرانيا من المفترض أن تكون حليفة واشنطن التي خصصت لدعمها مليارات الدوﻻرات من مساعدات عسكرية وتسليح بأحدث الأسلحة والتدريب والعتاد في مواجهة الغزو الروسي لأراضي كييف، وتلك إيران التي أعلنت وقوفها الى جانب موسكو والرئيس بوتين التي تورطت في الحرب الأوكرانية متحالفة مع الروس، والتي أشارت وكاﻻت اﻻستخبارات الأميركية الى وجود جنود إيرانيين من الحرس الثوري في جزيرة القرم والأراضي الروسية وشمال حدود أوكرانيا في روسيا البيضاء، والتي تقصف دروناتها مناطق دولة أوروبية، ﻻ تزال واشنطن رغم كل هذا والى الآن تسعى تارة في السر وطوراً في العلن أو عبر رسائل الى القيادة الإيرانية حيث كشف وزير خارجية النظام الإيراني حسين أمير عبد اللهيان مؤخراً فحوى واحدة منها تلقاها من الجانب الأميركي بطلب العودة الى التفاوض في الملف النووي، ﻻ تزال تسعى الى كسب ود طهران والعودة الى الحوار معها رغم النفي الأميركي لكلام عبد اللهيان.في المقابل، تقدم الرياض التي تتهمها واشنطن باﻻصطفاف الى جانب الروس ضدها بسبب قرار أوبيك بلاس بخفض الإنتاج، للأوكرانيا التي يغزوها الروس مساعدات إنسانية ومالية بقيمة أربعماية مليون دوﻻر، ما حمل الرئيس الأوكراني فولودومير زيلنسكي على شكر المملكة وولي عهدها لتلك المساعدات والتعهّد بأن تبقى أوكرانيا ضامنة للأمن الغذائي العالمي، فيما قام رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، الى جانب تقديم مساعدات بقيمة مئة مليون دوﻻر لأوكرانيا، بوساطة بين روسيا وأوكرانيا لمحاولة حل الصراع حبياً، وقد استُقبل من الرئيسين بوتين وزيلينسكي بحفاوة كبيرة وتقدير لجهوده السلمية، ومع ذلك تتهمهما واشنطن باﻻصطفاف الى جانب الروس ضدها …واشنطن ترد على استخدام المسيّرات الإيرانية بضرب المدن الأوكرانية والشعب الأوكراني ببيانات الإدانة واﻻستنكار والكلام عن عقوبات جاهزة لفرضها على كيانات إيرانية ذات علاقة بالمسيّرات وبيعها لموسكو، وربما تكتب تلك البيانات والعقوبات بنفس الحبر الذي تكتب فيه رسائل التودد لطهران ﻻستئناف المفاوضات النووية، علماً أن إيران شريكة في الحرب في أوكرانيا الى جانب الروس، ومع ذلك فواشنطن ﻻ تبالي ولا تشن أي حملة على طهران باستثناء كلام الإدانة واﻻستنكار وفرض بعض العقوبات عن حياء وللشكل منعاً للإحراج من قبل رأي عام عربي ودولي مراقب.
المسيّرات الإيرانية دمّرت حوالي ٣٠% من البنى التحتية الأوكرانية وزرعت الرعب والدمار في أوكرانيا حليفة واشنطن ومحورها الساخن في مواجهة الروس، فيما البيت الأبيض ﻻ يزال يرى في إيران شريكاً محتملاً له إن قررت طهران العودة الى اﻻتفاق النووي.
الرياض و أبوظبي والعرب إجمالاً هم حلفاء واشنطن التاريخيين والساعين الى مساعدة أوكرانيا ووقف الحرب، أصبحوا أعداءً للبيت الأبيض، بينما إيران المتحالفة مع روسيا في حرب أوكرانيا ضد حليف الوﻻيات المتحدة الرئيس زيلنسكي هي الشريكة والصديقة المحتملة لواشنطن بمجرد توقيعها على اتفاق نووي معها …
منطق مقلوب وسياسة مقلوبة … فلو كانت الرياض وأبو ظبي متآمرتان على أوكرانيا هل كان الرئيس زيلنسكي استقبل مساعداتهما ومساعيهما ؟
لو كانت الرياض وأبو ظبي متآمرتان على الوﻻيات المتحدة الأميركية ومصطفتان الى جانب الروس هل كانتا لتلتفتا الى مساعدة الرئيس زيلنسكي؟ أم كانتا تحالفتا مع روسيا وساعدتا موسكو؟ ثم هل كانتا لتتحالفا مع إيران في نفس الخندق الى جانب روسيا، وإيران عدوة العرب الأولى في العقدين الأخيرين ؟
ثمة مشكلة كبيرة في سياسة الإدارة الديمقراطية في واشنطن، مشكلة تكاد تتحوّل الى معضلة ﻻ تليق بدولة عظمى كالوﻻيات المتحدة الأميركية.
أسعار النفط العالمية اذاً انخفضت الى مستوى ٢% مع انخفاض الطلب الصيني، وهذا اﻻنخفاض يدحض كلياً كل ادعاءات إدارة الديمقراطيين في واشنطن الذين حمّلوا قرار أوبك بلاس أبعاد ﻻ علاقة لها بالواقع وﻻ بالحوكمة الرشيدة للتوازنات اﻻقتصادية العالمية، إذ يكفي تصوّر لو أن أوبيك بلاس لم تخفض الإنتاج فأين كان سيصبح سعر البرميل هبوطاً؟ ربما كان لينخفض السعر الى ١٥ أو ٢٠ % أقله مع ما كان يمكن أن يستتبع ذلك من مشكلات ونكبات اقتصادية عالمية.انخفاض سعر البرميل يُثبت اذاً زيف إدعاءات إدارة واشنطن الديمقراطية إذ ان سعر البرميل انخفض وسيتابع انخفاضه المتوازن، ولن يستطيع الرئيس بوتين اﻻستفادة من ارتفاع سعر البرميل الى ما فوق ١٠٠ $ للبرميل الواحد بفعل قرار أوبك بلاس نفسها التي هو عضو فيها.
قرار أوبك بلاس اذاً حمى الأسواق العالمية من أزمة اقتصادية عالمية كادت تكون وشيكة، ومنع الأسعار من الصعود الجنوني لا بل حمى الأسعار من اﻻنهيار، ولوﻻ هذا القرار لكان اﻻنخفاض الحالي قد تجاوز نسبة ٢% الى ١٠ وربما ١٥% من أسعار النفط.
انخفاض سعر البرميل كشفَ سذاجة السياسة الأميركية الديمقراطية تجاه المنطقة وعورات هذه السياسة المعيبة والمهينة للأميركيين أولاً وقبل أي أحد آخر.