يقول الدكتور علي عواد في كتابه “الإعلام والرأي” “إن تدمير الأمم لا يحدث في ساحات القتال، بل غالباً ما يحدث في مجالات الفكر والثقافة”، ومن هنا نرى مدى “هدوء” التدمير الثقافي الذي يمكن أن تتعرّض له الشعوب من دون أي ضجة أو صوت، إنما المفارقة أن ما يعانيه لبنان “إستثنائي”، فحتّى هذا الهدوء يُسمَع ضجيجه في كل أصقاع الأرض، لما كان يمثّله هذا البلد من قيمة ثقافية وساحة لأي ابتكار وتجديد ونقل للثقافات والفكر والأدب والفنون.
أما واقع اليوم، فهو انحسار هذه الصورة من جراء الإنهيار الذي يعيشه لبنان على المستويات كافة، ليس المادية فقط بل الفكرية والثقافية أيضاً، إضافة إلى المحاولات الخجولة التي تقوم بها بعض المجموعات في عدد من المناطق للحفاظ على هذه الصورة ولتمتين وجود الثقافة. وللحديث أكثر عن هذا الشق، كان لموقع LebTalks حديث مع الكاتب والصحافي عطالله السليم الذي أوضح بدايةً أن ” إنهيار البنيان الإقتصادي والسياسي للبنان بدأ منذ العام ٢٠١٩، وكان لهذا الإنهيار أن يُصيب نواحي المجتمع كافة، وبالطبع الثقافة هي إحدى الجوانب التي طالها هذا الإنهيار، إنما في الأصل وقبل الأزمة، كانت الثقافة الحقيقية بشكل عام إما غائبة أو مغيّبة عن المجتمع اللبناني، لأن النمط الإستهلاكي الذي ميّز حياة اللبنانيين هو الطاغي، فتحوّلت هي الأخرى إلى ثقافة إستهلاكية غريبة عن واقع مجتمعها، كما أنها تجارية الطابع، وتخضع لشروط القوى المهيمنة في المجتمع”، مضيفاً أن “غياب الأطر والمجمعّات الثقافية في البلد يؤثر بشكل سلبي على واقع المجتمع اللبناني، وفي الأصل يفتقد المجتمع اللبناني الى ثقافة الأماكن العامة، وهذا الأمر مقصود برأيي لعدم تلاقي اللبنانيين في ما بينهم والإتفاق على هوية وطنية مشتركة، كما أن وجود أطر ثقافية فاعلة يساهم في تعزيز الفكر النقدي الحرّ بشكل مغاير لما تبتغيه السلطة السياسية لأن هذه الأخيرة لطالما سعت دوماً إلى تكبيل المجتمع اللبناني وأسره بتناقضات ثانوية، لذلك فإن خلق مجمعّات ثقافية يشكل خطراً عليها لما لهذه المجمعات من أهمية لتكوين البديل ولو على أرضية ثقافية. هناك اليوم محاولات لخلق هكذا مجمّعات إلا أنها محاولات خجولة على أهميتها، ولكنها تبقى ضمن إطار المبادرات الفردية للأسف”.
وفي السياق ذاته، إعتبر السليم أن ” المطلوب اليوم هو إسترجاع حيوية المجتمع وإطلاق دينامية الإقتصاد، وهذا لن يحصل قبل التغيير السياسي الجذري، فبعد إنجاز هذه الأمور يصبح استرجاع الثقافة “تحصيل حاصل”، مشيراً إلى أنه “ثمة ضرورة لتحرير المجتمع من الأزمة الإقتصادية الخانقة التي نمرّ بها، ويمكننا فعل ذلك بالمناسبة عبر المجال الثقافي والفني والإبداعي، إذ لطالما لعبت الفنون دوراً مهماً في التغيير السياسي والمجتمعي، ولكنني لا أعوّل على دور الدولة في المجال الثقافي، لأنها متقاعسة أصلاً في تأدية أدنى واجباتها تجاه المواطن وضمان حقوقه المعيشية البسيطة”. وفي الحديث عن التأثير الإقتصادي للثقافة يقول السليم “في الاساس، إن نظرة الدولة الى القطاع الثقافي نظرة تقليدية، عازلة إياها عن الدورة الإقتصادية، بينما الحقيقة تقول إن العوائد الإستثمارية لتنمية القطاع الثقافي والفنيّ تُعد مهمة في ما لو توافر الدعم الرسمي لهذا القطاع”، مؤكداً أن “ثمة وفرة في الطاقات الإبداعية العربية بشكل عام، وهذا ما تؤكده التجارب والأمثلة الناجحة والأرقام، ولكن هل سألنا يوماً أنفسنا لماذا تنجح هذه المواهب خارج حدود البلدان العربية؟ الجواب بكل بساطة هو أنه وفي دول المهجر، تتوفر البنية التحتية لهذه الطاقات التي تستطيع أن تشق طريقها إلى العامة، فالمال والدعم الرسمي ضروريان لنمو هذه المواهب، وهذا بالتحديد ما ينقصنا هنا في لبنان خصوصاً وفي عالمنا العربي عموماً.”
في الختام، الخوف الحقيقي اليوم هو أن نصل في نهاية المطاف إلى نقطة، تندثر فيها كافة أوجه الثقافة والفكر لنكون بذلك قد قضينا تماماً على لبنان ومكانته التي لا يزال حتى اليوم يحاول البعض الحفاظ عليها، وتحاول الغالبية القضاء عليها، فإن كنتَ تريد قتل شعب أقتل ثقافته، وهو ما يحدث اليوم!