في الثاني عشر من أيلول من العام ٢٠١٩، أي قبل اندلاع “ثورة تشرين” بشهر واحدٍ، تم تعيين القاضي سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، في موازاة عزل القاضي جان فهد عن هذا المنصب بعد أن شغله مدة سبع سنوات.هذا التعيين الذي يُسجل في خانة ” الأهداف الإيجابية ” لحكومة الرئيس سعد الحريري في ذاك الوقت، لقي ترحيباً شبه جامعٍ تجلّى في اعتبار نادي قضاة لبنان أنه ” يوم قضائي مشرق” يمهّد لانطلاق ورشة حقيقية لتفعيل الدور المنتظر للقضاء.
تعيين “الريس عبود”، القواتي الهوى، كما وصفه البعض، سراً وعلانيةً، ترافق مع إرادة غالبية القضاة ومع كل شخص يؤمن بوطنه سيداً حراً مستقلاً، وبالعدالة التي تخوض حرباً طويلة وقاسية، تبدأ بخرق أعراف التعيينات القضائية التي تحصل وفق معايير غير واضحة أساسها مدى قرب القاضي المعني بالتعيين من القوى السياسية الراجحة في المنظومة الحاكمة.هذا الرجل المشهود له بالنزاهة والكفاءة والتجرّد لطالما رفض القيام بأي خطوة للتقرّب من المسؤولين أو الإستجابة لدعواتهم، وهي خطوة بدأها منذ توليه مناصب قضائية عدة كانت بعيدة عن النيابة العامة أو قضاء التحقيق، أي المناصب الأكثر تسيساً اذا صح التعبير، والأكثر تماساً مع السياسيين أنفسهم الذين انتهجوا مسار التدخل الدائم في العمل القضائي، وهو أمر ليس وليد الساعة بل هو متجذر في سلوك السلطة السياسية.في الأمتار الأخيرة على نهاية عهدٍ أخذ التشكيلات والمناقلات القضائية رهينةً في أدراج قصر بعبدا، ما حال دون إعادة إطلاق عجلة العمل القضائي على أسس سليمة، وفي ظل حجم الضغوط على القضاء الذي بلغ حداً غير مسبوق على أكثر من محور، تتجدد الحملة المركّبة والمفبركة على رئيس مجلس القضاء الأعلى من خلال التصويب على ” دور مريب” يحاول البعض إلصاقه بالقاضي عبود، بدءاً بالملابسات التي رافقت ولا تزال ملف التحقيق في انفجار المرفأ من خلال اتهامه برفع سور الحصانة حول المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، الى قضايا أخرى لا تقل أهمية كونها مفصلية في حيثياتها وهي أكثر من أن تُعدّ، في الوقت الذي يتابع فيه الريّس عبود عمله بهدوء، مستنداً الى مبدأ ” شرعة الأخلاقيات القضائية”، تاركاً للمجلس الذي يرأسه هامش القرار بمعزل عن عُرف احتكار الشؤون القضائية وإدارتها بشكل هرمي كما جرت العادة، وقد تجلّى هذا المسار بوضوح من خلال التزامه بمقررات الجمعيات العمومية التي يعقدها القضاة، حتى لو كانت مخالفة لتوجهه، وكان آخرها الجمعية المتعلقة بإضراب القضاة عن العمل التي دعا هو مع المجلس الى عقدها حيث كان مشجعاً لا ناهياً ، ما يعني أنه لم يوحِ بتغيير توجهه، لا داخل قصور العدل ولا خارجها.اذا كان تعيين القاضي سهيل عبود منذ قرابة الثلاث سنوات قد شكّل سابقة في حصاد مع يشبه الإجماع عليه لتبوء أرفع منصب قضائي ماروني، ما يجعله عُرفاً لا قانوناً من المرشحين الطبيعيين للوصول الى سدة الرئاسة في بعبدا، فإن هذه ” القطبة” التي باتت غير مخفية قد تكون أولى سهام الحملة الممجوجة ضد قاضٍ يرفع شعار ” أخلاقيات القاضي أولاً “، قاضٍ يرى فيه البعض ممن عايش “العصر الذهبي” لقصور العدل” ملامح القاضي فيليب خيرالله الذي تبوأ منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى، والذي أُطلق عليه لقب ” راهب العدلية”، وهي ذاتها ملامح الكفاءة والتجرد والمناقبية التي ستساعد إبن عين كفاع وحفيد الأديب مارون عبود على إعادة التوازن الى سلطة قضائية أصابها الإرتجاج من جراء ارتفاع منسوب الضغط السياسي عليها.