القى متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس, وألقى عظة قال فيها: “لا بد في البداية من إدانة الجرائم المروعة التي تحصل، وهي تفوق كل تصور وتتخطى كل الأعراف الإنسانية والمواثيق الدولية. أملنا في هذا الوقت العصيب أن يتغلب المنطق والعقل على الغرائز، وأن تتضافر الجهود من أجل وقف الحرب والنار والتنكيل بخليقة الله التي خلقها للحياة. حمى الله لبنان وأبناءه وبسط سلامه في بلدنا وفي العالم أجمع. نفهم من إنجيل اليوم أن الرب يسوع لم يكن لديه بعد تلاميذ قد التزموا الكلمة، رغم الجموع التي كانت تتبعه أو تتحلق حوله وتسمع تعاليمه وتتأثر بآياته، لكنها تعود إلى الإهتمامات اليومية. يوحي لنا إنجيل اليوم أن الرب أراد أن يلتزمه مختاروه الأولون التزاما كاملا ونهائيا، لكي يتمكن من تهيئتهم للرولية التي ستلقى على عاتقهم”.
أضاف: “كان المسيح يخاطب الجموع معلما، من سفينة بطرس، أي أصبح بطرس ومن معه ملزمين بأن يتركوا شباكهم وبقية أشغالهم ويصغوا إليه. بعدما فرغ من التعليم، نراه يخاطب بطرس طالبا منه الذهاب إلى العمق لإلقاء الشباك: «تقدم إلى العمق وألقوا شباككم للصيد». أمرهم بالإبحار إلى العمق، الأمر الأخطر من البقاء على الضفة. لكن الصيد في الأعماق أغنى. هكذا المؤمن الحقيقي، لا يكتفي بمعرفة الله السطحية لأنه يرفض الإكتفاء بما يتسع له المنطق البشري الذي، مهما اتسع، يبقى محدودا. المؤمن الحقيقي، غالبا ما يجد نفسه في تنازع بين إرادته في الإستسلام لحكمة الله وبين ميوله القوية إلى اتباع ما يتسع له عقله ومنطقه، لكن اختياره لحكمة الله يغلب، لأنه يعرف أنه اختار الأفضل والأغنى، وأن الله يكشف لطالبيه الحقيقيين خفايا حكمته ليحيوا. يعلن سمعان للسيد أنهم تعبوا ولم يصطادوا شيئا. هذا «التصريح» يصف حال حياتنا الإيمانية السطحية، التي تحوي التعب الكثير، والثمر القليل. سمعان، الذي أصغى إلى تعاليم السيد، لم يوقفه التعب، بل قال: «يا معلم… بكلمتك ألقي الشبكة».
وتابع: “غالبا ما نرى في الكتاب المقدس، ما يشبه التناقض بين المنطق البشري والحكمة الإلهية، لأن المنطق البشري هو من هذا العالم المحدود، أما حكمة الله فلا تحد. لا يطلب الله من أحبائه أن يكونوا بلا فهم أو حكمة. نحن نؤمن بأن كل العطايا الصالحة تأتي من الله، بما فيها العلم والمعرفة والحكمة، كما نؤمن بأن تطور العلم وتنامي المعارف من علامات عناية الخالق بخليقته. مأساة المنطق البشري أنه محدود بما يراه ويتلمسه، ولا قدرة له على استيعاب ما ليس محسوسا. السامرية مثلا، حين قال لها الرب: «أنا أعطيك ماء حيا»، أجابته: «لا دلو لديك والبئر عميقة» (يو٤: 10-١١). منطقها البشري سليم، إذ ثمة عوائق مادية محسوسة تحول بينه وبين المياه، لكن مشكلتها أنها لم تتجاوز ما تفهمه، ولم تتعال على تقويمها الشخصي للأمور. هذا ما أعانها عليه الرب حين كشف لها خفايا حياتها. الرسول بطرس تكلم هو أيضا بالمنطق البشري إنطلاقا من خبرته”.
وقال: “مأساة زماننا أننا نرفض الإقرار بمحدودية المنطق، كخطوة أولى إلزامية للإستسلام إلى الحكمة الإلهية. من صمم على تعهد حياته بفهمه الشخصي فقط، يكف يد العناية الإلهية عنه. لا مكان في حياتنا لإلهين، والله أعطانا أن نختار، وأراد أن يكون خيارنا حاسما. حياتنا الأرضية تأتي علينا بالهموم، وقد تدفعنا أحيانا إلى القلق إزاء ما ليس «منطقيا» بحسب فهمنا. هذا من ضعفنا البشري، والله لا يحسبه علينا إثما. لكن الإثم يكمن في أن يبقى الإنسان مشيحا بوجهه عن المخلص الحاضر دائما لمؤازرته ومساعدته في الضيقات”.
أضاف: “في عالمنا الحاضر، المتخبط بالحروب والمشاكل، حيث يكثر الحقد والغش والكذب والرياء، وتنعدم الإنسانية والمحبة، يحتار الإنسان في من يضع ثقته، ومن يصدق في مواجهته لمسؤوليات الحياة ومتاعبها. يقول كاتب المزامير: «لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده» (146: 3). كم هو صحيح هذا القول في أيامنا، إذ لا ملجأ ولا ملاذ للضعيف والفقير والمظلوم، لأن من يتوجب عليهم حماية هؤلاء يتلهون بأمورهم، ما يسبب الحزن والإحباط للمحتاجين. يقول إرمياء النبي: «ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان… مبارك الرجل الذي يتكل على الرب» (17: 5 و7). كثيرون يتكلون على أنفسهم أو على من يرون عندهم القوة أو القدرة أو السلطة، متناسين الله الحاضر دوما لاحتضانهم ومساعدتهم”.
وختم: “رمى بطرس شباكه واثقا من أن النتيجة ستكون إيجابية. قد يقول بعضنا إنه مؤمن بالله وحكمته، وأمور حياته ما زالت تتعسر. هل نسأل أنفسنا من أين تأتي مقاييس التيسير أو عدمه؟ أليست مستمدة من مفاهيمنا البشرية المحدودة؟ دعوتنا اليوم أن نعيش على الرجاء بالرب وأن نسعى دوما إلى اختيار حكمة الله لأنها، وإن كانت بعد مستورة أمامنا، إلا أنه علينا أن ندرك أنها هي وحدها ملء الخير”.