غزة : واجهة صراع دولي إقليمي أبعد من قضية واحدة

Smoke plumes billow during Israeli air strikes in Gaza City on October 12, 2023 as raging battles between Israel and the Hamas movement continue for the sixth consecutive day. Washington urged Israel to show restraint in its response to Hamas's surprise attack -- the worst in the country's 75-year history -- which Israeli forces said killed more than 1,200 people, mostly civilians. In Gaza, officials have reported more than 1,200 people killed in Israel's uninterrupted campaign of air and artillery strikes, while the UN said more than 338,000 people have been displaced. (Photo by IBRAHIM HAMS / AFP)

إعتادت المنطقة بين الفنية والأخرى منذ سنوات على حروب في فلسطين، وتحديداً في غزة كانت غالباً ما تنتهي بتفاهمات ووقف إطلاق نارٍ وتسويات موقتة، لكن هذه المرة، ومع مرور الوقت وتطوّر المواقف الإقليمية والدولية ومسار العمليات الميدانية في غزة، ومن مراقبتنا لردود الفعل، سواء على مستوى الحكومات أو الشعوب في المنطقة، فالأمر مختلف كلياً عن المرات السابقة.

صراع لتصفية حسابات إقليمية ودولية

صحيح أن كل شيء بدأ صبيحة السابع من تشرين الأول بتوغّل مقاتلي حماس الى داخل غلاف غزة واستهدافهم سكان المستعمرات المحيطة وإقدامهم على قتل حوالي ١٤٠٠ إسرائيلي، ما استجرَّ ردّة الفعل الإسرائيلية الى ما نشهده حالياً من محاولات اقتحام غزة، والأضرار الجسيمة التي يتكبّدها الشعب الغزاوي بالأرواح والممتلكات والأرزاق، والمجازر التي تتسبّب بها الآلة العسكرية الإسرائيلية، لكن الصحيح أيضاً أن ما يجري أكثر من حرب إسرائيلية- فلسطينية وتحديداً في غزة، وأقل من حرب إقليمية ذات امتدادات وتفاعلات دولية، ذاك أن ما يجري في غزة تجاوز بمفاعيله وتداعياته غزة وإسرائيل وأدخل الصراع بأبوابه المفتوحة حلبة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية انطلاقاً من مجريات الحرب على ضراوتها وفرادتها.

خلط أوراق وإعادة حسابات

لأول مرة، الحكومة والسلطات الأسرائيلية تقر بالأثمان البشرية الباهظة التي استعدت لها في حملة انتقامها، وتقبل بدفعها على غير عادة إسرائيل التي كانت تقيم الأرض ولا تقعدها على جندي مخطوف أو آخر مقتول.
هذه المرة، الحسابات مختلفة لأن ما هو مطروح ليس فقط مصير دولة إسرائيل وأمنها وسلامتها بل أكثر من ذلك، فما هو مطروح هو أمن المنطقة واستقرارها حيث أن كل العوامل والعناصر الإقليمية والدولية المؤثِرة تجد في ما يحصل ميداناً حيوياً لخلط الأوراق وإعادة الحسابات الإقليمية والدولية على مساحة مناطق الصراع، من أوكرانيا الى تايوان، مروراً بالشرق الأوسط فأفريقيا.
هذه المرة تدخّلت واشنطن بعدّتها وعديدها من أجل حماية إسرائيل “المكشوفة” إقليمياً وفلسطينياً نتيجة سياسة يمين أمعنَ تطرّفاً في مواقفه وتوسيعاً للمستوطنات وانتهاكاً للمقدّسات.

ما يحصل في غزة امتداد جيو سياسي لتداعيات أوكرانيا وأفريقيا

الظاهرة الأخرى هذه المرة هي أن “حماس” التي لطالما كانت تمثّل الى حدٍ ما صوت التسوية والتفاوض و التهدئة هي المعنية أولاً وأخيراً بما يحصل حالياً لدرجة أنها باتت هدف إسرائيل المباشر والأولوي، وبات المطلوب رأسها وتفكيك بنيتها العسكرية التحتية.
يٌضاف الى كل هذا الدخول الروسي على الأحداث بعدما أيقنت موسكو أن حرق “حماس” في غزة وسقوطها سيعني مواجهة السقوط الروسي الحتمي في سوريا لاسيما وأن الأساطيل الأميركية والغربية والناتو على بعد أميال من طرطوس واللاذقية وحميميم وقواعدها العسكرية، وبالتالي فإن روسيا تعتبر ما يحصل في غزة وتداعياته امتداداً جيو سياسياً لحرب أوكرانيا والمواجهة مع الغرب في أفريقيا، وهذا ما يُكسب حرب غزة البعد الدولي الإقليمي خصوصاً وأن إيران ليست على اتفاق مع روسيا في سوريا، كما أنها ليست موافقة على رؤية الرئيس بوتين والوزير لافروف “يركبان ” موجة الحرب في غزة للإيهام بأنها الردّ الروسي على دعم الغرب لأوكرانيا، في وقت لا هي مسيطرة ولا هي الآمرة، بل إيران التي صرفت المال والسلاح والعتاد والتدريبات على “حماس” والقسّام وتستخدمهما ليس من أجل إحقاق الحق في القدس وفلسطين، بل من أجل إحقاق مصالحها الاستراتيجية هي وأجندتها السياسية.

حرب غزة تحرم إيران أوراقاً ضاغطة

من هنا، نرى أن إقدام الروس على تولّي شأن حرب غزة يحرم طهران أوراق غزة الضاغطة على الأميركيين والغرب، وبالتالي لن تقبل طهران أن يسلبها أي طرف “ورقتها ” الفلسطينية كي تستطيع الاستمرار في المقايضة.
من هنا، وانطلاقاً من مجمل التحليل أعلاه يمكننا التوقّف عند الآتي :

حرب لن تتوقف الا بتغييرات جذرية في المنطقة

  • أولاً : هذه الحرب انطلقت ولن تتوقف إلا بتغييرات جذرية في المنطقة تبدأ بفلسطين ولا تنتهي بلبنان فسوريا، وواهم كل مَن يعتقد أن العودة الى ما قبل ٧ تشرين الأول ممكن، إذ لا عودة الى “الستاتيكو” الذي حكمَ المنطقة منذ ما بعد الربيع العربي، وبالتالي ثمة معادلات وخرائط شرق أوسط جديد.

دول الخليج تصبّ اهتمامها على إنقاذ الأبرياء في غزة

  • ثانياً : هذه الحرب ورغم عنفها ودمويتها على سكان غزة ليست حرب فلسطين- إسرائيل، بل حرب حماس – الإخوان المسلمين – إيران، ضد المنطقة والمجتمع الدولي، ومن هنا نفهم البرودة النسبية التي تواجه بها حكومات الخليج مثلاً ما يجري في غزة، إذ تنصبّ اهتماماتها على إنقاذ الشعب والأبرياء ومساعدته وفتح المعابر مع مصر وإرسال المساعدات والضغط باتجاه وقف إطلاق نار وإقامة ممرات أنسانية آمنة، فدول الخليج كما دول أخرى في المنطقة لا تستطيع أن تعطي إيران رصيداً من جيبها، فدعم حماس يعني دعم إيران وأجندتها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن تقبل به دول المنطقة وبخاصة الخليج .

انتهاء التطرّف بكل أشكاله

-ثالثاً : هذه الحرب أنهت التطرّف بكل أشكاله، والبادي أن ما يحصل يطحن في سياقه كل التيارات المتطرّفة الإسلاموية واليهودية معاً من أقصى التطرّف اليميني الإسرائيلي الى أقصى التطرّف الإسلامي الشيعي والسنّي على السواء،
فلن نستغرب مع انتهاء الحرب رؤية سقوط نتانياهو وبن غفير وسموتريشت وسواهم، كما لن نستغرب مع انتهاء الحرب أن تختفي حماس والقسّام والمنظمات الإسلاموية السياسية كافة بآلياتها العسكرية.

حرب عالمية مصغّرة بأبعاد إقليمية ودولية

  • رابعاً : إن الحرب الحالية هي حرب عالمية مصغّرة الى الآن تتداخل فيها كل الحسابات الدولية والإقليمية من شمال شرق القوقاز، مروراً بأوكرانيا والشرق الأوسط وإيران، وصولاً الى أقاصي بحر الصين والكوريتَين وتايوان، فكل التوازنات الإقليمية والدولية تتبدّل وما لواشنطن مصلحة به في أوكرانيا لها أيضاً مصلحة به في الشرق الأوسط، وما للصين مصلحة به في الشرق الأوسط فلواشنطن مصلحة به وأساطيلها مع أساطيل دول الأطلسي لم تأتِ الى المنطقة من أجل إسرائيل فقط، بل وأيضاً من أجل وقف التمددين الروسي والصيني في منطقة آبار النفط ومراكز الاقتصاد الدولي، خصوصاً مشروع ممر الهند الى أوروبا المكوَّن من دول متمكّنة تجارياً واقتصادياً ومالياً، و الذي يتحدّى طريق حرير الصين المكوَّن من دول مديونة وغير ذات قوة اقتصادية ومالية وتجارية، وكل هذا في عقر الشرق الأوسط فضلاً عن البعد الجيو استراتيجي المتمثّل بمشكلة الميليشيات الإيرانية بالوكالة وفي طليعتها حماس وحزب الله، ومن هنا خطورة ما ينتظر المنطقة من تغييرات دراماتيكية شديدة الوطأة وخطورة ما سيتم على مسرح الأحداث من اغتيالات قيادية كبرى تقضي على رؤوس، وصولاً الى نصرة وعد بلفور البريطاني بنسخته الأميركية- الأطلسية المعدَّلة بسلامٍ عربي- إسرائيلي آتٍ ولو بعد حين …

إقفال منافذ بحرية وترسيم تعديلات في أنظمة المنطقة

ومن هنا، فإن التحشيد الأميركي والأطلسي في المنطقة من المتوسط الى بحر الخليج العربي لإيصال كل هذه الرسائل، ولمنع حماس وحزب الله بعد اليوم من أن يكون لهما منفذ بحري على ممرات دولية ترسم معالم تعديلات في الأنظمة، والخرائط قد تبدأ باغتيالات نوعية تستهدف قيادات كأمين عام حزب الله اللبناني وقياديين في الحرس الثوري الإيراني في لبنان.
ومن هنا خطورة الوضع اللبناني وتوقّع تصعيد حزب الله لموقفه وهو المتحسّس بتردّده الى الآن بالانخراط الكلي والمفتوح في المعركة، لأنه يعلم الثمن الكبير الذي قد يدفعه ميدانياً وسياسياً و… جيو سياسياً انطلاقاً من عدم رغبة إيرانية صادقة بالتورّط في انتظار مَن يشتري منها أوراق فلسطين ولبنان … لذا فإن حرب غزة تحمل في طياتها حروباً أكبر ليس أقلها حرب الممرات الدولية ضد روسيا والصين وإيران في هذه اللحظة، وللحديث تتمة ….

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: