في عالم التشظي: أفكار شارل مالك تلامس المستقبل اللبناني

Charles-malek

في خضم عالمٍ يتفكك، حيث تتقاتل الهويات وتشتعل الحروب، تصدحُ أفكار الفيلسوف اللبناني الكبير شارل مالك، كشراع يقاوم عصف الريح. لم يكن مالك مجرد أكاديمي يتأمل الواقع من برج عاجٍ فلسفي، بل كان مناضلاً فكرياً حمل همومَ أمته وشعبه، ورأى في الفلسفة سلاحاً لمواجهة تحديات عصره، وهي تحديات ما زالت تسيطر علينا اليوم.

يؤكد مالك أن “حقيقة الإنسان تكمن في حريته”، وهذه الحرية ليست مجرد غياب القيود الخارجية، بل هي “قدرة الفرد على تجاوز ذاته وارتباطه بالحقيقة الكلية واللا نهائية”. في عالمٍ يُجزّئ الهوية ويقوقع الفرد في قبضة الجماعة، تذكّرنا أصداء قول مالك بأن “المجموعة الحرّة لا تعني بالضرورة أفرادًا أحرارًا”، بل إن العبودية الحقيقية تكمن في “استلاب الفرد لحريته الفكرية والروحية لصالح جماعته أو ثقافته أو أيديولوجيته”.

يتصدى مالك أيضاً لظاهرة الاستهلاك الجامح في عصرنا، مشيراً إلى أن “المال ليس الغاية بل وسيلة لخدمة غايات أعلى، وهي تحقيق الخير والجمال والحقيقة”. في مجتمعٍ يقدّس الرفاهية المادية، يدعونا مالك إلى استعادة البعد الروحي والأخلاقي للإنسان، وإدراك أن “الثروة الحقيقية تكمن في تنمية كيان المرء الداخلي، وليس في تراكم المقتنيات”.
ولكن، كيف نوفّق بين حرية الفرد ووحدة المجتمع؟ يشدّد مالك على مفهوم “الحوار” كركيزة للتواصل البنّاء واحترام التعددية. إذ يرى أن “الحوار الحقيقي لا يعني التنازل عن قناعاتنا، بل التوغل في عقل الآخر، وبذل جهدٍ صادقٍ لفهمه واحترامه”.

وفي زمنٍ تشتعل فيه النزاعات، نتيجة سوء التفاهم والتعصب، لنا دعوة ملحّة لاستلهام حكمة مالك القائلة “إن الحقائق العميقة لا تعارض بعضها البعض، بل تتكامل”.

لا تنفصل فلسفة مالك عن إيمانه العميق كذلك. فهو يرى أن “الروحانية شرط لا بد منه لحياةٍ متكاملة”، وأن “الدين والحكمة وجهان لعملة واحدة: الدين هو الحكمة المتجسدة، والحكمة هي الدين المُفكَّر به”. وفي مجتمعٍ يتخبّط بين التطرّف والإلحاد، يضيء لنا مالك طريقاً وسطياً يجمع بين الإيمان والعقل، ويؤكد على أن الدين يجب أن يُعاش لا أن يُفرض.

إن أفكار شارل مالك ليست مجرّد آثارٍ تاريخية، بل بوصلة توجهنا في عالمنا المضطرب والمادي. إنها تدعونا إلى استعادة قيم الحرية والمسؤولية والحوار، كما تغليب الروح على المادة، وتُذكّرنا بأن السعادة الحقيقية لا تكمن في الماديات، بل في تنمية عقولنا وقلوبنا وتوحيدها، في سعي مشترك نحو الحقيقة والجمال والكمال.

لعلّ في استحضار أفكار مالك في خضم صعوبة يومياتنا اللبنانية الحالية، تكمن بذرة مستقبلٍ لبناني أفضل، مستقبلٍ تتفوق فيه قيم التسامح والعقل على الأحقاد والتعصّب، ويتوحّد فيه أبناءُ وطننا، بغض النظر عن اختلافاتهم، في حوارٍ إنسانيٍ وطنيٍ حضاري، يعيد لأرض الأرز بريقها وروحها الأصيلة كما أرادها مالك.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: