بمناسبة عيد الميلاد المجيد، احتفل قدس الأب العام هادي محفوظ، الرئيس العام للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة بقداس نصف الليل في دير وجامعة الروح القدس - الكسليك. عاونه في القدّاس رئيس الجامعة الأب جوزف مكرزل وأمين السر العامّ الأب طوني عيد. وشارك في القداس الوكيل العامّ الأب شربل فياض وعدد من الآباء وحضره وزير الاعلام بول مرقص ومؤمنون. وخدمت القداس جوقة الاخوة الدارسين بقيادة الأب أنطوان سلامه.
وقال الأب العام محفوظ في عظة قدّاس العيد: إنّ اسم يسوع هو عمانوئيل، أي الله معنا، ألله هنا، حاضر معنا، على الدوام.
بذلك أضحى المجد يعطى لله هنا على الأرض لأنّ العلى هنا. وأضحى السلام الذي على الأرض قربانًا يرتضيه الله مجدًا وتمجيدًا في العلى.
هذا هو سرّ يسوع المسيح العظيم، السرّ العظيم والطفل العظيم، سرّ سوف يظلّ عقلنا يعجز عن إدراكه بشكل كامل، ولكنّه سرّ نستعذب التفكير به وتذوّقه بفعل الإيمان.
وفق إعلان الملائكة، لا يعتبر الله الإنسان صادقًا إذا أعلن المجد له ولم يصنع السلام لأخيه الإنسان.
وأضاف: هذا هو إيماننا، الإيمان بالوحدة بين الروح والجسد، بين العلاقة مع الله وبين حياتنا اليوميّة، وإنّ الإيمان بهذه الوحدة هو ما يجعل حياتنا مطابقة للإنجيل. نحن جميعًا نعلم أنّ التجربة كبيرة وكبيرة جدًّا بأن نفصل بين تأدية المجد لله في العلى وبين الحياة على الأرض. التجربة كبيرة، أبعدها الله عنّا.
من خلال هويّته، أي الاله الكامل والإنسان الكامل، يدعونا الطفل الربّ يسوع إلى وحدة الروح والجسد فينا، أي أن لا نفصل إيماننا بالله وتمجيدنا له عن يوميّاتنا في جميع وجوهها، في جمالاتها وفي مساوئها وتحدياتها وصعوباتها، في أمجادنا وفي ضعفنا. علينا الا نستحي من ذاتنا، بل أن نضع ذاتنا على الدوام امام الله الذي يحبّنا. يرانا الله كأبناء ويغفر لنا ضعفنا، ولكنّه لم يحتمل الفرّيسيّين الّذين فصلوا، بخبث، العبادة لله عن يوميّات الحياة.
وتابع الأب محفوظ: كم كان جميلاً عندما أعلم قداسة البابا لاون الرابع عشر الصحافيين في طريق عودته من بيروت الى روما أنّ أحد الكتب التي ساهمت في صياغة روحانيّته هو كتاب من القرن السابع عشر، لراهب يحمل اسم الأخ لورانس، ويقول قداسته إنّ هذا الأخ لم يعطِ حتى اسم عائلته. يحمل هذا الكتاب عنوان: "الشعور بحضور الله" (la pratique de la presence de Dieu)، أي الشعور بحضور الله في اليوميّات، في ما نعمله، أينما كنّا، ومهما كانت دعوتنا في الحياة. هذا يعني الثقة بالله وتسليم جميع أمورنا له، وعدم الخوف، لأنّه هنا، الله معنا، عمّانوئيل.
من أهمّ تعاليم الميلاد لنا إذا، هي وحدة العلاقة مع الله والحياة اليوميّة. أعود فأقول إنّ التجربة كبيرة بأن نجعل من الوقت المخصّص لله في الصلاة أو القداس أو أيّ ممارسة ليتورجية، منفصلاً عن حياتنا اليوميّة. يظهر الله الليلة كثير الرحمة، محبًّا للإنسان إلى أقصى الحدود.
وشدد الأب محفوظ على أنّ الميلاد يقول لنا إنّ العلى والأرض متعانقتان. كم من المؤمنين يخطئون حين يعتقدون أنّ النجاح في الحياة يتناقض مع اللجوء الى الله، بينما حقيقة الميلاد تعلّمنا أنّ الفرح ينساب في الحياة على الأرض عندما نسمح لذاتنا بالشعور الدائم بحضور الله.
كم من المؤمنين يخطئون حين يعتقدون أنّ المادة والخيور ورفاهية الحياة تتعارض وايمانهم. حقيقة الميلاد تعلّم غير ذلك. الميلاد يعلّمنا أنّ الخيور والرفاهية والفرح بركة من عند الربّ، ولكن حين يسمح الإنسان للخيور بأنتعمي عينيه فلا يعود يرى حقيقة الحياة وجوهرها، ولا يعود يرى أخاه المحتاج، حينئذ يصبح الإنسان مستعملاً الخيور بغير محلّها، أو يصبح ساعيًا وراء الخيور ناسيًا أنّ هدف هذه الخيور هو الوصول الى الفرح وليسهو لإفقاد الإنسان فرح الحياة، فلا فرح الا مع الله وبه، ومع محبة الإنسان الآخر، وخصوصا الأضعف، ومن خلاله.
وأشار الى أنّ حقيقة الميلاد تعلّمنا أنّ يسوع أتى الى الأرض ينقل سلامًا وفرحًا وخلاصًا لكلّ إنسان. لقد لخّص القديس بطرس عمل يسوع بالقول: "جال على أرضنا يصنع الخير" (أع 10: 38)، لذلك نراه يشفي ويغفر ويخلّص الإنسان من كلّ شيء سيئ. أي إنّه كان يعطي الإنسان الخلاص والفرح والسلام. مثل الربّ يسوع، كلّ إنسان مدعوّ إلى صنع الخير تجاه الإنسان الآخر، وخصوصا الأضعف.
لا يفهم أحدٌ الإنسانَ وهشاشةَ وجوده بقدر ما يفهمه طفل المغارة، أي ربّنا يسوع المسيح، هو الذي أظهر وحدة الروح والجسد، أي وحدة العلاقة مع الله والحياة اليوميّة. الإثنين الماضي، أعطتنا ليتورجيّتنا المارونيّة أن نتأمّل في النص من انجيل يوحنا حيث يأتون بزانية الى يسوع ليروا ما حكمه عليها، وقد كان عليه وفق الشريعة أن يأمر برجمها. أمّا هو فبيّن للّذين أتوا يجرّبوه، أي للّذين جعلوا الروح وعبادة الله، مفصولة عن يوميّات الحياة، بيّن لهم أنّهم خطأة، أمّا للزانية فقال: أما أدانك أحد؟ إذهبي ولا تعودي تخطئي.
ويتضح وجه آخر لحقيقة الميلاد، هو دعوة يسوع الينا الى ان نكون صانعي سلام، أن نحبّ الله ونحبّ كلّ إنسان، حتى من أساء الينا. اليس هو الذي قال: طوبى لصانعي السلام؟
وسأل: وهل لنا أن نلفظ "صانعي سلام" بدون أن نتذكر أنّ هذه العبارة كانت شعارًا لتلك الزيارة المجيدة التي نعم بها لبنان، منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، أي زيارة قداسة البابا لاون الرابع عشر الى لبنان؟ لقد شدّد قداسة البابا على ضرورة صنع السلام ودعانا اليه، في كلّ كلماته. وهو بيّن لنا بالتعليم وبالمثل كيف نعود الى الله في اليوميّات، وكيف نحبّ كلّ أحد، خصوصًا الأضعف بيننا، المحتاج والمريض وجرحى الحياة عمومًا. جميع محطات زيارته كانت مجيدة. ويبقى في أذهاننا جميعًا كيف إنّه جثا أمام جثمان راهب عنايا معلّما ايّانا، اقتداء بحياة قديس لبنان، أنّ الاتحاد بالله هو الأساس لكلّ حياتنا، كما يلتصق بفكرنا كيف زار مرضى مستشفى دير الصليب، معلّمًا ضرورة الاقتداء بيسوع الذي قال: "كنت مريضا فزرتموني" أي احببتموني. لقد كان رسالة سلام لنا، هو الذي كانت كلمة "السلام" أولى الكلمات العلنيّة له، بعد انتخابه كحبر أعظم في 8 أيار من هذه السنة.
وكيف لنا أن ننسى صلاته الصامتة في مرفأ بيروت والقاءه التحية على أهل الضحايا؟ إنّه بذلك يعلّمنا أن نكون الى جانب الحزين، وان نخشع امام تضحيات الأبرياء وأن نشجب كلّ بنىً تؤدي الى الكوارث بين البشر. لا شكّ في أنّنا جميعًا مدعوون إلى التعلّم الإيجابيّ من اختباراتنا في لبنان، التعلّم بأن نبني مجتمعًا أفضل، فيه الإدارة أفضل، فيه الدولة، بشرعيّتها، وحدها صاحبة القرار في إنفاذ ما يعود بالخير على جميع المواطنين. إنّ حقيقة الميلاد تدعونا إلى أن نرسي في مجتمعنا الآليات التي تعود بالخير على الجميع، وعلى كلّ مواطن، وليس على مرجعيّة من هنا أو من هناك، أو مجموعة من هنا أو من هناك. إنّ حقيقة الميلاد تدعونا الى إرساء السلام بعضنا مع بعض. كلّما تنقى مجتمعنا، كلّما أضحت وحدته أمتن، وكلّما ازدهر وفرحنا به متألقا.
وتوجّه الأب محفوظ الى سعادة السفير البابوي المطران باولو بورجيا بالشكر على تعبه من أجل نجاح هذه الزيارة، راجياً إيّاه أن "ينقل إلى قداسته محبّتنا البنوية وصلاتنا وخضوعنا الكنسيّ الكامل له".
وختم: أودّ معكم الصلاة من أجل فخامة رئيس الجمهوريّة العماد جوزف عون، لكي يعضده الربّ ويلهمه من أجل كلّ خير، هو وجميع المسؤولين في وطننا الحبيب، لكي يحلّ في لبنان المجد لله في العلى، وليكون على أرضه سلام.
معكم أودّ التوجّه إلى صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى، رأس كنيستنا وراعينا، معايدًا ايّاه وطالبًا له من الربّ كلّ الخير والبركة والعافية.
ومعكم أريد أن نصلّي بعضنا لبعض لنفقه أكثر فأكثر حقيقة الميلاد ونشعر بحضور الله معنا على الدوام ونهتف، بدون ملل ولا كلل: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام. آمين.
