استضافت جامعة الروح القدس – الكسليك رجل الأعمال العالمي كارلوس غصن في حديث ملهم بعنوان: "القيادة وإدارة التغيير في زمن التحوّل"، نظّمه مكتب العلاقات الاستراتيجية مع الشركات في الجامعة، في حضور رئيس الجامعة الأب البروفسور جوزف مكرزل وعدد من أعضاء مجلسها والأساتذة والطلاب، حيث شاركهم غصن رؤيته حول كيفية مواجهة التحولات الكبرى في عالم الأعمال، ودور القائد في تحفيز الفرق وتحقيق التغيير المستدام.
خلال اللقاء، شارك عدد من ممثلي الجامعة، وهم: نائبة الرئيس للشؤون الأكاديمية ريما مطر، مديرة مكتب رئيس الجامعة ليا يحشوشي، ومدير مركز التوجيه والإرشاد المهني في الجامعة زهير صوما في حلقة حوارية مع غصن، تناولوا فيها قضايا تتعلق بإدارة الأزمات، وبناء ثقافة تنظيمية مرنة، واستشراف مستقبل القيادة في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة.
استهل اللقاء بكلمة ترحيبية لمديرة مكتب العلاقات الاستراتيجية مع الشركات في الجامعة الدكتورة مادونا سلامة أيانيان أشادت فيها بالمسيرة العالمية لكارلوس غصن، الذي أثّر في مفاهيم الإدارة الحديثة وتُدرّس تجربته في أبرز الجامعات. وأكدت أن التعاون معه خلال السنوات الخمس الماضية من خلال برامج تنفيذية واستشارية كان مصدر فخر للجامعة.
وألقى رئيس الجامعة الأب البروفسور جوزف مكرزل كلمة أكد فيها أن "التحوّل في الجامعة ليس مجرد شعار، بل أسلوب حياة يومي في التعليم والتعاون وتحويل الأفكار إلى نتائج ملموسة. وأوضح أن هذا اليوم مميز لأن غصن يجسّد مفهوم القيادة في مواجهة التعقيد، ووضع الأهداف الجريئة، وتحويل التحديات إلى فرص، مشيرًا إلى أن تجربته العالمية في التحوّل مصدر إلهام يمكن التعلّم منه كثيرًا".
في حديث تناول فيه مفهوم القيادة وتحدياتها، أكد كارلوس غصن أن "القيادة ليست منصباً أو لقباً، بل قدرة على دفع الناس العاديين لإنجاز ما لا يرغبون بفعله عادة، وجعلهم يشعرون بالفخر بالنتائج التي يحققونها. وقال إن "القيادة الحقيقية تُختبر في الأزمات، لا في أوقات السكون"، مشدداً على أن القائد يُعرف بقدرته على تحويل الأزمات إلى فرص.
وميّز غصن بين القيادة الشكلية والقيادة الحقيقية، موضحاً أن "الأولى تُمنح بالانتخاب أو المنصب، بينما الثانية تُكتسب بالفعل والتأثير".
وحول تأثير خلفيته المتعددة الثقافات، إذ وُلد في البرازيل، ونشأ في لبنان، وتعلّم في فرنسا، وقاد شركة يابانية، قال إن "التعدد الثقافي منحه قدرة أكبر على كسر القيود الذهنية واستيعاب وجهات النظر المختلفة. لكنه أقرّ في الوقت نفسه بأنه واجه صعوبات، خصوصًا في التواصل وفهم ردود الفعل الثقافية، إلا أن الانفتاح وعدم التحيّز يمنحانه مرونة في اتخاذ القرارات الصعبة".
وتطرق غصن إلى تجربته في إدارة ثلاث شركات كبرى (رينو، نيسان، وميتسوبيشي) في وقت واحد، متحدثاً عن توازنه الداخلي في مواجهة الأزمات. وقال إن "أول خطوة هي تقبّل أن الحياة صعبة بطبيعتها، وأن القائد لا يمكن أن يخشى الأزمات، بل عليه أن يستعد لها دائمًا"، مؤكدًا أن البوصلة الأخلاقية هي ما يحمي القائد من الانهيار، ومنتقداً القادة الذين يفتقرون إلى قناعات راسخة، قائلاً: "الناس يفضلون قائدًا صاحب مبدأ، حتى لو اختلفوا معه، على قائد بلا موقف".
كما وجّه نصيحة إلى الحضور قائلاً: "الوحيدة التي تستحق أن تُروى هي القصة التي ستكتبونها بأنفسكم". وحثهم على عدم الاستسلام للظروف، "لأن الأحداث التي تبدو سيئة اليوم قد تتحول بعد سنوات إلى أعظم الفرص".
في الجزء الثاني من اللقاء، ركّز غصن على مفاهيم إدارة التغيير، والتواصل، وأهمية الفعل الملموس في بناء المصداقية والقيادة، مستنداً إلى تجربته في إنقاذ شركة نيسان من الانهيار أواخر التسعينيات.
وأوضح أن "إدارة المؤسسات الأكاديمية أكثر تعقيدًا من إدارة الشركات بسبب تضارب أهدافها بين الرسالة الاجتماعية والاستدامة المالية"، مؤكّدًا أن "الحل هو تحقيق توازن دقيق عبر الحوار والتوافق لا عبر القرارات السريعة".
وشدّد على أن "التواصل يبدأ من القيادة العليا، وأن غياب رسالة موحدة يؤدي إلى الفوضى". وتناول أهمية السرد القصصي (Storytelling) كأداة استراتيجية لتوحيد الأفراد حول هدف مشترك، محذرًا من استخدامه دون إنجاز فعلي، قائلاً: "العمل يجب أن يسبق الإعلان". وأعطى مثالًا جامعة الروح القدس – الكسليك التي "تمتلك فرصًا حقيقية لكتابة قصص نجاح ملموسة، مثل تطوير متحفها الثقافي الفريد أو توقيع شراكات أكاديمية دولية وغيرها من الإنجازات"، مشددًا على أن "نشر الخبر بعد الإنجاز يمنح المصداقية ويُبرز القوة الفعلية للمؤسسة".
في الجزء الثالث من اللقاء، قدّم كارلوس غصن رؤية متوازنة حول التعليم في عصر الذكاء الاصطناعي، مؤكدًا ضرورة الجمع بين التطور التقني وجوهر التعلم الإنساني.
ورفض فكرة أن التعليم التقليدي فقد قيمته، موضحًا أن "التعلّم لا يقوم فقط على المعرفة، بل على العاطفة والاتصال الإنساني. قد ينقل الذكاء الاصطناعي المعلومات، لكنه لا يستطيع نقل الشغف أو الإلهام الذي يولده المعلم الحقيقي". واستشهد بتجربة شخصية مع أستاذ ألهمه حب الأدب الفرنسي، ليبيّن أن التأثير الإنساني لا يمكن أن تحققه الآلات.
في المقابل، أقرّ بأن "الذكاء الاصطناعي سيعيد تشكيل التعليم والعمل، مثلما فعلت الثورات السابقة، مشيرًا إلى أن بعض الوظائف ستختفي وأخرى ستُخلق، وأن المستقبل سيجعل العمل أكثر إبداعًا. أما دور المعلمين، فسيصبح تعليم الطلاب كيفية استخدام المعرفة وتحويلها إلى فعل حقيقي، فيما يتولى الذكاء الاصطناعي المهام الروتينية، مما يتيح للأساتذة التركيز على التفكير النقدي والإبداع، على غرار الأطباء الذين سيعتمدون عليه في التشخيص البسيط ليتفرغوا للحالات المعقدة".
ونصح غصن بالتركيز على مهارات التفكير والتحليل والنقد والتواصل، إلى جانب تنمية الذاكرة التي اعتبرها "عضلة تضعف إذا لم تُستخدم"، مؤكدًا أهمية الموازنة بين المنطق والذكاء العاطفي.
واختتم غصن الجلسة بالتأكيد على "أن الذكاء الاصطناعي ثورة تمكينية وليست تدميرية، وأن مستقبل التعليم والعمل سيبقى في يد الإنسان، شرط أن نحافظ على إنسانيتنا، قيمنا، وشغفنا بالتعلّم. الذكاء الاصطناعي يسرّع التقدّم، لكنه لا يخلق الإلهام. الإلهام سيبقى دائماً من إنسان إلى إنسان".


 
															