لا حرب قريبة.. ولكن لا سلام مستقر أيضاً

jnoub

كتبت ناديا غصوب في صحيفة "نداء الوطن":

رغم كل التصعيد الإعلامي واللغة الحادة التي تطغى على الخطاب السياسي في المنطقة، تؤكد مصادر ديبلوماسية مطلعة أنّ "لا مؤشرات واقعية توحي بقرب اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله" في المدى المنظور. فتل أبيب، وإن كانت ترفع سقف تهديداتها وتلوّح بخيارات عسكرية مختلفة، تدرك أن فتح جبهة لبنان الآن لا يصب في مصلحتها الاستراتيجية، لا سيما في ظل انشغالها بتحديات أمنية داخلية وتوترات إقليمية لا تحتمل مغامرة عسكرية واسعة. كما أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، رغم قوتها، تدرك حجم التعقيد الذي قد يجرّه أي تصعيد على الحدود الشمالية، خاصة مع هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية وقلقها من ردود فعل "حزب الله" غير المتوقعة".

وفي المقابل، يبدو أن "حزب الله"، الذي يراقب المشهد عن كثب، لا يسعى إلى مواجهة مفتوحة أيضًا. فـ"الحزب" لا يزال يعاني من آثار الخسائر الميدانية والسياسية التي تكبدها خلال السنوات الماضية، سواء في الداخل اللبناني أو في الساحة الإقليمية. لذلك، يتعامل ببراغماتية عالية، محاولًا الحفاظ على معادلة "الردع المتبادل" دون الانجرار إلى حرب شاملة قد تضعف موقعه أكثر مما تقويه.

لكن هذا الهدوء الحذر لا يعني أن الأمور تسير نحو استقرار دائم. فإسرائيل تواصل سياسة "التلويح بالحرب" وإبقاء كل السيناريوات مفتوحة على الطاولة، كأداة ضغط سياسي ونفسي على "حزب الله"، وكوسيلة لتحريك ملفات تفاوضية أو داخلية، في حين تستغل بعض الأحداث الميدانية لتنفيذ ضربات موضعية محدودة داخل الأراضي اللبنانية. هذه الضربات، التي تتراوح بين الرسائل التحذيرية والعمليات الوقائية، لا تُحدث تغييرًا استراتيجيًا لكنها تُبقي التوتر قائمًا عند مستوى يمكن التحكم به، ما يكرّس حالة الستاتيكو القائمة منذ سنوات.

أما في الداخل اللبناني، فتبدو الصورة أكثر تعقيدًا وخطورة. فالأزمة الاقتصادية العميقة التي يعيشها البلد منذ سنوات دخلت مرحلة الجمود الكامل، في ظل غياب أي حلول جذرية أو مبادرات إنقاذية حقيقية. ومع تراجع الدعم الخارجي، خصوصًا من الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية، تتسع الهوة بين ما يحتاجه لبنان فعليًا وما يستطيع المجتمع الدولي تقديمه له. فلا حديث جدي عن إعادة إعمار، ولا عن برامج تنموية أو استثمارية، بل العكس: المزيد من الانكماش، والبطالة، وتراجع الخدمات العامة. وهكذا، يتكرّس ما يمكن وصفه بحالة الستاتيكو الاقتصادي والسياسي، حيث لا انهيار شامل ولا تعافيَ حقيقي.

في ظل هذا المشهد القاتم، يحاول "الحزب" ترميم صورته في الداخل اللبناني. فبعد أن تضررت سمعته بفعل الانهيار المالي وتراجع قدرته على تأمين الدعم لحلفائه، يسعى اليوم إلى استعادة حضوره في الساحة السياسية والشعبية، مستخدمًا خطاب "الصمود والمقاومة" كوسيلة لإعادة تعبئة جمهوره، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية المقبلة. هذه الانتخابات باتت تمثل محطة مفصلية في مسار البلاد، إذ تراهن عليها القوى السياسية المختلفة لإعادة رسم موازين القوى في البرلمان المقبل.

مصادر سياسية مطلعة تشير إلى أن "الانتخابات ستُجرى في موعدها المحدد، ولا نية حقيقية لتأجيلها، رغم الحديث المتكرر عن صعوبات لوجستية وإدارية. بل على العكس، يبدو أن بعض الأطراف يرى فيها فرصة لمعركة سياسية مفتوحة، تهدف إلى إعادة التموضع الداخلي والاستعداد للمرحلة التي تليها. وتبرز المواجهة المرتقبة بين "القوات اللبنانية" ورئيس مجلس النواب نبيه بري كإحدى أبرز علامات الصراع القادم، خاصة في ظل الخلاف حول قانون اقتراع المغتربين وما إذا كان سيتم تمريره قبل انتهاء المهل القانونية".

أما في ما يتعلق بسؤال السلاح، فالصورة تبقى ضبابية ومعقدة. فإسرائيل تتابع نشاط "الحزب" بشكل يومي عبر طائراتها المسيّرة وأجهزتها الاستخبارية، وتعرف جيدًا أن "الحزب" لا يزال يمتلك ترسانة كبيرة من الصواريخ والأسلحة الدقيقة، لكنها تدرك أيضًا أن قدراته ليست في ذروتها كما كانت في السابق. "الحزب"، من جهته، يحاول أن يُظهر تماسكًا وثقة أمام جمهوره، وأن يبعث برسائل بأنه لا يزال الرقم الأصعب في المعادلة اللبنانية، حتى وإن كان يميل تدريجيًا إلى إعادة تموضع سياسي أكثر من كونه عسكريًا.

في المحصلة، يمكن القول إن لبنان يعيش اليوم حالة "بين بين"، لا حرب تلوح في الأفق القريب، ولا سلام مستقرًا يلوح في المدى البعيد. فالمعادلة الراهنة تقوم على إدارة الوقت لا على حل الأزمات. الجميع ينتظر، يراقب، ويؤجل المواجهة الكبرى، بانتظار أن تتضح ملامح المرحلة المقبلة إقليميًا ومحليًا. وبينما تتبدل الموازين ببطء، يبقى لبنان عالقًا في منتصف الطريق: بلدٌ متوتر لا ينفجر، وهدوءٌ هش لا يطمئن، وستاتيكو طويل الأمد يحكم المشهد حتى إشعار آخر.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: