كتبت رنى سعرتي في "نداء الوطن":
بما أنه بات معلوماً أن لبنان يحتاج إلى صندوق النقد الدولي لتحقيق الانضباط المالي وليس لاحتياجاته التمويلية، كيف أصبحت تقديرات حجم التمويل المطلوب من المجتمع الدولي لإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي في لبنان؟
فور إعلان الحكومة عن موافقتها على خطة الجيش لحصر السلاح، حتى تحرّك المجتمع الدولي والعربي لمساندة الجيش ماديًّا، حيث أعلنت الولايات المتحدة أنها ستدعمه بـ 14 مليون دولار، كما أكّد المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان أن التحضيرات جارية لعقد مؤتمر مخصّص لدعم الجيش خلال الشهر المقبل، مع الإشارة إلى أن السعودية أبدت استعدادًا لدعم الجيش وإنجاح المؤتمر. كذلك، أكّد السفير القطري الشيخ سعود بن عبد الرحمن آل ثاني أن المساعدات القطرية ستشمل البنى التحتية والجيش اللبناني والأجهزة الأمنية.
في المقابل، بات واضحًا ومؤكّدًا أن مؤتمرات دعم لبنان الاقتصادية، مربوطة بشكل مباشر بإقرار قانون الفجوة المالية الذي طالب رئيس الجمهورية جوزاف عون في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، بإقراره "في أسرع وقت ممكن لأن ذلك خطوة أساسية لعقد مؤتمرات اقتصادية لصالح لبنان، وإعادة هيكلة القطاع العام وتنميته".
جاءت هذه التصاريح بالتزامن مع تصريح مديرة إدارة التواصل في صندوق النقد الدولي جولي كوزاك التي شدّدت على أن لبنان سيحتاج إلى "دعم كبير من الشركاء الخارجيين لجهود الإصلاح"، ولا يحتاج فقط إلى برنامج إصلاح ودعم من صندوق النقد الدولي، مشيرة إلى أن الاقتصاد اللبناني لا يزال يواجه تحدّيات جسيمة وأن صندوق النقد يرجّح أن يكون قد انكمش بنسبة 7.5 % في العام 2024، وذلك عقب انكماش طفيف في عام 2023.
وفيما لفتت إلى أن الاحتياجات الإنسانية واحتياجات إعادة الإعمار كبيرة وتتطلّب جهدًا ودعمًا دوليين موحّدين ومنسّقين، لفتت إلى أن لبنان سيحتاج إلى برنامج إصلاح شامل، وهو أمر ضروري لاستعادة النموّ، وخفض البطالة، والأهمّ من ذلك، تحسين الظروف الاجتماعية للشعب اللبناني. "وهذا، بالطبع، سيتطلّب تطبيق سياسات مختلفة بما في ذلك السياسة المالية. علمًا أن التمويل سيكون أيضًا جزءًا مهمًا من ذلك. لذلك، فإن المناقشات التي يجريها الموظفون مع السلطات اللبنانية تهدف في الواقع إلى النظر في المزيج المناسب من السياسات وإصلاح السياسات، وكذلك إلى حجم التمويل الخارجي المطلوب من المجتمع الدولي، بما يتجاوز مجرّد التمويل من صندوق النقد الدولي".
حاجات تمويلية
وبما أنه بات معلومًا أن لبنان يحتاج إلى صندوق النقد الدولي لتحقيق الانضباط المالي وليس لاحتياجاته التمويلية، كيف أصبحت تقديرات حجم التمويل المطلوب من المجتمع الدولي لإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي في لبنان؟
في هذا الإطار، اعتبر الخبير الاقتصادي والأكاديمي بيار الخوري أنه "إذا أردنا تقديرًا واقعيًا لحجم ورشة الإعمار في لبنان اليوم، فأوّل ما يجب تثبيته هو خطّ الأساس: تقدير الحاجات المباشرة لما خلّفته الحرب الأخيرة فوق طبقاتٍ من اهتراء البنية التحتية التاريخي".
وأشار إلى أنه وفق تقييم الأضرار السريع الصادر عن البنك الدولي في 7 آذار 2025، تبلغ حاجات التعافي وإعادة الإعمار نحو 11 مليار دولار تغطي عشرة قطاعات على امتداد البلاد بين 8 تشرين الأول 2023 و 20 كانون الأول 2024. موضحًا لـ "نداء الوطن" أن هذا الظرف الاستثنائي لا يُختزل بأعمال ترميم منازل ومتاجر، فهو يتضمّن أيضًا شبكات وخدمات عامة أصابها الخراب أو تعطّلت قدرتها التشغيلية. ويقدّر التقرير أن ما بين 3 و 5 مليارات دولار يجب أن يأتي تمويله من القطاع العام، فيما يقع العبء المتبقي، أي نحو 6 إلى 8 مليارات، على تمويل خاصّ يشمل السكن والتجارة والصناعة والسياحة.
لكن هذه "الفاتورة العاجلة" وفقًا للخبير الخوري، لا تكفي وحدها لوضع البلد على مسار استقرار ونموّ. فالتكيّف المناخي ورفع جودة الخدمات الأساسية يحتاجان استثمارات إضافية بحلول 2030 تُقدَّر بنحو 7.6 مليارات دولار، منها نحو 4 مليارات لقطاع الطاقة وحده لتحويل المزيج نحو مصادر أنظف والانتقال من المشتقات السائلة إلى الغاز، فضلًا عن تحديث الشبكات. بهذا المعنى، تصبح الحاجات الكلية الواقعية خلال خمس إلى سبع سنوات في نطاق يقارب 18– 20 مليار دولار: 11 مليارًا للتعافي وإزالة الأضرار، ونحو 7 إلى 9 مليارات لتحديث البنى الأساسية (طاقة، مياه، نقل، نفايات صلبة) وفق سيناريو استثمار "لا ندم" No Regret Investment يرفع الإنتاجية ويخفض الكلفة على المدى المتوسط.
وأكّد الخوري أن تركيبة التمويل يجب أن تتنوّع بوضوح: على خط التمويل العام الخارجي، بدأ مجلس إدارة البنك الدولي يقرّ أدوات تمويل موجّهة للأولويّات العاجلة، حيث تمّت الموافقة مثلًا على تمويل بقيمة 250 مليون دولار في حزيران 2025 لإصلاح البنى التحتية الأساسية وإدارة الأنقاض، وعلى 257.8 مليون دولار في كانون الثاني 2025 لتحسين إمدادات المياه في بيروت الكبرى وجبل لبنان، إضافة إلى 250 مليون دولار للطاقة المتجدّدة والشبكة في تشرين الأول 2024. هذه أمثلة على شرايين تمويل يمكن توسيعها ضمن برامج قطاعية متسلسلة ترتبط بإصلاحات قابلة للقياس.
إلى جانب مؤسّسات التمويل الدولية المتعدّدة الأطراف، يبقى التمويل الحكومي الثنائي من الصناديق العربية والمؤسسات الأوروبية وتسهيلات الضمان (مثل وكالات الضمان والاعتمادات الائتمانية الرسمية) قناة أساسية للمشاريع الكبيرة في الطاقة والمياه والنقل، فيما يمكن دفع مساهمات القطاع الخاص عبر نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتمويلات ميسّرة مدعومة بضمانات، وصكوك/ سندات خضراء لمشاريع التوليد اللامركزي والشبكات الذكية ومحطات المعالجة. وفي الشق المحلّي، يمكن هندسة أدوات ادخار موجّهة للجاليات (سندات اغتراب بمخاطر سيادية مخفَّضة عبر ضمانات خارجية)، لكن ذلك يظلّ مشروطًا بإصلاحات مالية ونقدية تعيد الثقة وتغلق فجوة التقييم التي تمنع التسعير الآمن للمخاطر.
ورأى الخوري أن شروط التمويل لن تكون شكليّة. فصندوق النقد الدولي يربط أي برنامج دعم بترتيبات واضحة لإعادة هيكلة المصارف واستعادة الوظيفة الائتمانية وحماية المودعين "إلى أقصى حدّ ممكن"، إلى جانب الانتقال بعيدًا من اقتصاد النقد (الكاش) وقيام إطار تشريعي مكتمل للقيود الرأسمالية الموقتة وإدارة الخسائر. هذه النقاط برزت مجدّدًا في ختام بعثة حزيران 2025، وتنعكس عمليًا في مسار تشريعي داخلي شهد إقرار قانونَي السرية المصرفية (نيسان 2025) وإعادة تنظيم المصارف (تموز/ آب 2025)، مع بقاء "قانون الفجوة المالية"، أي آلية توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف وربّما جزء من كبار المودعين غير الممتثلين للقوانين الدولية، الحلقة الأكثر حساسية سياسيًا واجتماعيًا، لكنها شرطٌ لازم لتحرير التدفقات وتمكين أي برنامج تمويلي واسع.
من زاوية الجدوى، أوضح أن ضخّ استثمارات بهذا الحجم ليس إنفاقًا ضروريًا فحسب، حيث إن تعافي السكن والتجارة والصناعة والسياحة، يفتح قنوات تشغيل فورية ويعيد تحريك مضاعِفات الطلب، بينما يخلق التحديث في الطاقة والمياه والنقل مكاسب إنتاجية دائمة: كهرباء أكثر استقرارًا تقلّص كلفة المولّدات على الشركات والأسر، مياه آمنة تقلّل الإنفاق الخاص على البدائل، ونقلٌ موثوق يخفّض كلفة اللوجستيات ويُعيد وصل المناطق بالأسواق.
تربط تقديرات البنك الدولي بين تنفيذ "استثمارات لا ندم" وبين رفع النموّ المحتمل وخفض مخاطر المناخ، وهو ما يعني أن كلّ دولار يُضَخّ بصورة سليمة في هذه القطاعات يحمل عائدًا اجتماعيًا واقتصاديًا يتجاوز فائدته المحاسبية القصيرة الأجل. لكنّ مخاطر التمويل حقيقية ولا يجوز التقليل منها. أبرزها خطر "التنازع السياسي" الذي يُعيق الإصلاحات ويفرمل الصرف، ومخاطر الحَوْكمة وضعف الجهات المنفِّذة، وتقلّبات سعر الصرف، وتعثّر المصارف المحلية في لعب دور القنوات المساعدة على تمرير الائتمان.
واعتبر أن تقليل هذه المخاطر يستدعي حزمة متكاملة: أوّلًا، إقفال الملف التشريعي المالي عبر قانون الفجوة وتطبيق شفاف لقانون إعادة تنظيم المصارف مع سلطة حلّ فعّالة، وثانيًا، وضع أطر عقود عادلة ومتقدّمة للشراكات مع القطاع الخاص مع وحدات PPP قادرة على إعداد المشاريع وتسعير المخاطر، وثالثًا، ربط كلّ شريحة تمويل بمؤشرات إنجاز واضحة قابلة للتحقق المستقلّ، ورابعًا، توسيع استخدام ضمانات الهيئات الدولية لتخفيف مخاطر الدولة ولردم فجوة ثقة المستثمرين، وخامسًا، فصل مسارات التعويضات الاجتماعية عن مسارات الاستثمار كي لا تبتلع شبكات الأمان "الحيّز المالي" المخصّص للتحديث.
في الخلاصة العملية، قال الخوري إن نافذة التمويل مفتوحة لكنّها مشروطة، "رقم الـ 11 مليار دولار يغطّي التعافي من أضرار الحرب، لكنه لا يكفي لردم فجوة الخدمات التاريخية. استثمارات إضافية بقرابة 7 إلى 9 مليارات حتى 2030، تبدأ بالطاقة والمياه وتتحرّك نحو النقل والنفايات، هي ما يحوّل التعافي إلى نموّ. كلّ دولار سيادي أو خارجي سيصِل أسرع ويُحدث أثرًا أوسع بقدر ما تُقفل ملفات توزيع الخسائر المصرفية وتنتظم القواعد النقدية والرقابية. عندها فقط تصبح مساهمة رأس المال الخاص والاغترابي ممكنة على نطاق واسع، وتتحوّل ورشة الإعمار من "تمويل أزمة" إلى استثمار في طاقة إنتاجية واستقرار طويل الأمد".