حدود الدول أبعد من إطار جغرافي وإنعكاس جيو – سياسي وتجليات لموازين القوى في ما بينها، هي طوق نجاة للحد من أي إنتهاك لسيادتها. فمتى كانت هذه الحدود واضحة المعالم ومكرسة دولياً، يسهل تحديد اي إعتداء عليها وفرملة اي مطامع تاريخية وتنصل عقائدي منها من قبل دول الجوار.
عدم إحترام الحدود البرية والبحرية والجوية شكل ذريعة لحروب عدة بين البشر لذا شهدت البشرية مساراً تراكمياً لخلق اطر وفق القانون الدولي وآليات تطبيقية لتحديدها وترسيمها بما فيها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تمّ التوصل اليها في جامايكا عام 1982 من قبل 162 دولة ودخلت حيز التنفيذ في عام 1994.
منذ اعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 لم نشهد عملاً جدياً أو مثمراً لترسيم حدودها البرية الممتدة بطول 375 كم (233 ميل) مع سوريا، 79 كم (49 ميل) مع فلسطين التي قامت مكانها اسرائيل، فيما تتمتع بشاطئ يمتد 225 كم (140 ميل) على البحر الأبيض المتوسط. فيما حدودها البحرية التي كانت مهملة أيضاً، تصدرت الاهتمام مع اكتشاف ثورة غازية وحقول مهمة في المنطق الحدودية.
بعيداً عن الاطار التقني لترسيم هذه الحدود وتشعباته ومحاولة إلهاء الشعب اللبناني بتفاصيل لا تعنيه، المعضلة الاساسية التي يواجهها لبنان هي في الاطار الدولتي حيث نشهد تلكؤاً أو تواطؤاً أو من يدري ربما خيانة عبر إهمال السير جدياً بالخطوات الملزمة لحفظ حقوق لبنان في ظل غياب رجالات دولة في موقع القرار لمصلحة رجال “بهلوانيات سياسية” يحترفون تقاذف التهم والتنصل من المسؤولية.
في الحدود البرية، أفضت طاولة الحوار الوطني التي إنعقدت في نيسان عام 2006 الى إجماع لبناني على ضرورة ترسيم هذه الحدود مع سوريا لكن نظام الاسد اشترط البدء من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المتنازع عليها مع إسرائيل في خطوة واضحة لنسف الترسيم. فنجحت دمشق كعادتها بالمراوغة وكسب الوقت لتغيير موازين القوى لمصلحتها.
فالضغط الدولي والمحلي اللبناني عام 2006 مع وصول قوى “14 آذار” الى أوجها، بددته سوريا عبر الاعراب عن استعدادها للبحث بالمسألة وتشكيل لجنة من سياسيين وعسكريين سوريين بالتوازي مع تشكيل لبنان لجنة لهذه الغاية برئاسة الوزير جان طالوزيان، إضافة إلى تشكيل لجنتين موازيتين من محافظي البقاع والشمال تتوليان مع محافظي ريف دمشق وحمص إيجاد حل للمناطق المتداخلة بين البلدين. لكن هذه اللجان ظلت حبراً على ورق بعد خلط الاوراق لبنانياً جراء نجاح “حزب الله” منذ غزوة بيروت في 7 أيار 2008 بترويض جزء من قوى “14 آذار” ودفعه الى “ربط النزاع” وبعد تغّير المشهدية دولياً والدخول في حقبة ألـ”س-س”، ثم غرق سوريا بدءاً من عام 2011 بمستنقع الحرب.
تلكأت السلطة في لبنان عن الطلب جدياً من الاسد تقديم الاوراق والوثائق التي تثبت سورية مزارع شعبا وكفرشوبا لرفعها الى الامم المتحدة ما يؤدي الى انهاء النزاع الحدودي البري مع اسرائيل وبالتالي سحب ذريعة إبقاء سلاح “حزب الله” من جهة وعرقلة ترسيم الحدود البرية بين لبنان وسوريا وبالتالي الابقاء على الهدر المالي عبر التهريب وعدم اغلاق بوابات السلاح والعسكر التي يعتمدها “الحزب” من جهة ثانية.
في الحدود البحرية، تعاظمت أهمية ترسيمها مع إكتشاف حقول النفط والغاز في المنطقة بما فيها في المساحات البحرية المتنازع عليها بين بيروت وكل من دمشق وتل أبيب. فسارعت سوريا وإسرائيل الى العمل على إستخراجها حتى من المناطق المتنازع عليها، فيما هدرت السلطة الحاكمة في لبنان الوقت في مراسلات من هنا ومفاوضات من هناك تخوضها متخبطة مع ذاتها.
صحيح أن لبنان أصدر مرسوماً عام 2011 حمل رقم 6433 ورسّم من جانب واحد حدوده البحرية الشمالية والجنوبية والغربية مستنداً إلى القانون الدولي وأودعه في الأمم المتحدة لحفظ حقوقه، لكنّ الأمر جوبه برفض سوري عبر الاعتراض في العام ذاته لدى مجلس الأمن وترسيم دمشق حدود مختلفة. وبينما استمر الاخذ والرد بين البلدين وأمام الامم المتحدة، أعلنت الحكومة السورية في 9 آذار 2021 توقيع عقد مع شركة “كابيتال” الروسية للمسح والتنقيب عن النفط في المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة بين البلدين قاضمة ما يُقارب 750 كم مربعا داخل الحدود اللبنانيّة. في المقابل، كان الرد من قبل السلطة الحاكمة المتمثلة بحلفاء سوريا من الجنرال ميشال عون الى “حزب الله” بتواصل أشبه بـ”رفع العتب” والرهان على عامل الوقت وكثرة الملفات المتفجرة في لبنان التي تهمشّ اي قضية مهما بلغت اهميتها، فإستمرت سوريا بالحفر فيما لبنان يتلهى بحفر قبره بيده.
كما مع سوريا كذلك مع إسرائيل، لبنان يتخبط بإخفاقاته وصراعاته وربما مؤامراته فيما إسرائيل منكبة على الاستعداد لإستخراج الغاز من المناطق المتنازع عليها بالتزامن مع المفاوضات غير المباشرة عبر الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين.
ففي 12 نيسان 2021، وقع رئيس حكومة تصريف الأعمال في ذلك الحين حسان دياب مشروع المرسوم القاضي بتعديل المرسوم 6433 والذي يصحّح حدود لبنان البحرية جنوباً من الخط 23 إلى الخط 29، ويضيف 1430 كيلومتراً مربعاً على المساحة السابقة 860 كيلومتراً، غير أن التعديل لم يصبح نافذاً لأن رئيس الجمهورية لم يوقّع عليه حتى تاريخه.
في هذا الوقت، كانت اسرائيل بالتزامن مع التفاوض تعلن منذ نحو عام عن بدء تصنيع سفينة وحدة إنتاج الغاز الطبيعي المسال وتخزينهENERGEAN POWER ، ثم تعلن منذ اسابيع عن انطلاقها ويوم الجمعة 3/6/2022 عن عبورها قناة السويس ثم وصولها الى حقل كاريش متجاوزة الخط 29 وبدء تثبيت ركائزها لاستخراج الغاز خلال ثلاثة أشهر.
كـ”صحوة الموت” أدركت السلطات اللبنانية ان الباخرة اصبحت في حقل كاريش وسارعت الى التواصل مجدداً مع الوسيط الاميركي وكأنها لم تكن على علم ببدء تصنيع الباخرة او بإنطلاقها أو عبورها قناة السويس!!! كل ذلك، ولم يوقع رئيس الجمهورية تعديل المرسوم لإرساله الى الامم المتحدة وحفظ حق لبنان!!!
اللوم والعتب ليس على إسرائيل أو سوريا اللتين تحققان مصالح شعبهما بل الادانة لسلطة عندنا تتعمد جعل لبنان حدوداً مشرّعة و”رزقاً سائباً” “لغاية في نفس يعقوب” وكلنا يدركنا أن “الرزق السايب بيعلم الناس الحرام”.