ان اكثر ما يتغنّى به اللبنانيون بمواطنيه ومسؤوليه ومثقفيه وكتّابه ومؤرخيه، هو في تميّزه عن محيطه الإحادي والشمولي المحكوم بالحزب الواحد، ودين دُوَله الواحد في حين ان لبنان هو الدولة النموذجية في تنوع طوائفها ومذاهبها وتعدد ثقافات مجتمعاتها وحضاراتها. فهذا التنوع وذاك التعدد يكونان نعمةً عندما يحترمان ويصانان ويصبحان نقمة عندما يُخرقان ويُضربان تحت ذرائع العدد والقوة والحقوق والصلاحيات والاصلاحات. قد يكون مفهوما ومبرّرا موقف الأحزاب الدينية العقائدية الشمولية كحزب الله مثلا برفضها لميزة لبنان الآنفة الذكر، وبالتالي تكون محاولتها فرض عقيدتها و”ايمانها” على “الآخر” معروفة اسبابها الشرعية والدينية. مفهوم ومبرر بالمقابل رفض ومعاندة ومقاومة “الآخر” من التلاوين الطائفية كافة لمحاولات تطويعه وتذويبه، وبالتالي الغائه او في أحسن الأحوال تحويله الى ذميٍّ سياسيّ وثم ديني. اما ما ليس مبررا ولا مفهوما على الإطلاق ولا حتى مقبولا ابدا، انصياع واستسلام وتسليم هذا “الآخر” برأي ونهج حياة تُفرَض عليه اجتماعيا سياسيا وبالنهاية دينيا ليتماهى ويتطابق موقفه واداؤه مع الفارض القوي والمسيطر على المصاب، بما يسميه علم النفس ب”متلازمة ستوكهولم” وعلى مَن تنفذ بحقه “دينيا”وسياسيا “أحكام أهل الذمة” قد يكون مفهوما انطلاقا مما ذكرنا مثلا قيام الوفد المسيحي مع الراهبات بتلاوة الفاتحة والصلاة الاسلامية في التعزية، بنجل رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” الحاج محمد رعد، على الرغم من الخلاف العقائدي العميق في الجوهر قبل الشكل.اما ما لم يكن مبررا وعند تلاوة الراهبات والوفد للأبانا” برفع الايدي قام الحاج رعد واعضاء حزبه من الموجودين، بخفض اليدين التي رفعت مع الراهبات في تلاوة الفاتحة. هذا التفسير ليس الا حلقة من مسلسل طويل في التعبير عن الذمية السياسية والدينية، امتهنها ومارسها البعض من المسيحيين تقرّبا وطمعا بجَنّات السلطة والحكم والتعيينات والحصص، وخوفا من سطوة وقوة واعتداءات واغتيالات. لن ينافَس او يبارَز “التيار الوطني الحر” على موقع البطولة في الذمية اذ له الباع الاطول في هذا المجال، ونتوقف عند قليل من المحطات وما أكثرها، التي عبّرت بشكل واضح فاضح عن الذميّتين السياسية والدينية المتمثلة في أداء هذا التيار . ففي حين عبّر امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في تسجيل صوتي غير محدّد التاريخ، قوله “كسروان وجبيل مناطق المسلمين وقد جاءها المسيحيون غزاة”. عَبَّرَ التيار الوطني الحر في 6 شباط 2006 عبر توقيع ورقة التفاهم بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” في بنده العاشر من التفاهم ان”حمل السلاح … وسيلة شريفة مقدّسة”. كشف الرئيس السابق العماد ميشال عون عن “ذميّته الموصوفة” في 27 كانون الأول 2009 عبر صحيفة “الدار” الكويتية بقوله: ” عاشوراء طقس آلام يشبه أسبوع آلام المسيح… تلك المسيرة يتشابه فيها الشيعة والمسيحيّون.. وان الإمام الحسين ومسيرة التضحية تخطّت حجم المجموعة، لتصبح رسالة أممية، فيما تخطّت أيضاً رسالة المسيح من الحالة القائمة الى المفهوم الأسمى”. ليقول عضو” تكتل الإصلاح والتغيير” النائب السابق نبيل نقولا في ٣ شباط 2011 ردّاً على المتخوّفين من البديل الاسلامي للثورات العربية: “فلتسقط هذه الأنظمة وخلّينا نعمل كلنا إسلام”. ناهيك عن الحاق “التيار الوطني الحر” نفسه وجمهوره المسيحي بمحور تقوده الجمهورية الاسلامية في ايران، والتحاقهما بمحورها في لبنان الذي يقوده الحزب الاسلامي الشيعي الاثني عشري، المؤمن والملتزم بولاية الفقيه المطلقة وبأوامره الدينية والدنيوية الجبرية والنافذة … على ما أوضحنا شتّان ما بين ذميِّي هذا العصر وقولهم وتصرفاتهم، ولو كان في صفوفهم رجال او نساء دين، وبين بطريرك الاستقلال والحرية والمقاومة مار نصرالله بطرس صفير، وبقوله مذكّرا شاهدا ومؤنّباً عقب تفجير كنيسة سيدة النجاة الزوق في 28 شباط من العام 1994 “نحن الذين لجأنا الى المغاور والكهوف في عهد الظلم والظلام طوال مئات السنين، ليسلم لنا الإيمان بالله وعبادته على طريقتنا في هذه الجبال وعلى هذه الشواطئ، ولتبقى لنا الحرية التي إذا عُدمناها عُدمنا الحياة”
