أصبحت سوريا ساحة جانبية لمواجهة عسكرية طاحنة تدور رحاها في غزة، وعلى الرغم من إرادة البيت الأبيض في إبقاء الملفين منفصلين، إلا أن القوات الأميركية والإسرائيلية تشنّان منذ أسبوعين وحتى الآن غارات على مواقع الميليشيات الإيرانية في سوريا وفي طليعتها ميليشيا حزب الله اللبناني الموظف إقليمياً لخدمة الأجندة الإيرانية، بموازاة شنّ إسرائيل غارات على محيط دمشق والجنوب السوري في خطة مرسومة سبق لنا منذ أشهر أن أعلنا عن بعض خطوطها في أكثر من مقال .
أهداف مضبوطة عسكرياً في سوريا
هذا السيناريو الحربي الأميركي- الإسرائيلي يهدف الى إبقاء إيران في حالة حرب مع واشنطن، وخارج الإطار الذي تدور فيه معركة إسرائيل في غزة، فواشنطن تقوم بما تقوم به عسكرياً في سوريا لأهداف واضحة لديها ومضبوطة بخطوط حمر مع الإيرانيين لا تخلو من تأنيب مكلف أحياناً لطهران إن هي تجاوزت بعض هذه الخطوط الحمر .
رسائل ردع من واشنطن الى إيران فوق أرض سوريا
من هنا، يمكن القول إن واشنطن قلقة من ضربات إيرانية تطال قواتها في سوريا والعراق، ولذا فهي تبعث برسائل ردع مدوّية علّها تلجم إيران وميليشياتها وصولاً الى استخدام صواريخ مقاتلاتها الحربية لإيصال كا يلزم من رسائل للجانب الإيراني في لحظة تصعيد كبير وخطير في المنطقة على خلفية حرب غزة، فالطيران الحربي الأميركي، بشنّ غارات في شمال شرقي سوريا فهو يستهدف مواقع الحرس الثوري الإيراني لتخزين السلاح والعتاد، وقد جاءت الضربة ردّاً على الهجمات التي استهدفت مواقع القوات الأميركية في سوريا والعراق، بتوجيهٍ مباشر من الرئيس جو بايدن انطلاقاً من حق واشنطن في الدفاع عن نفسها وجنودها ومصالحها وأولوية سلامة أفراد القوات الأميركية.
هذه الضربة الأميركية الأخيرة لمواقع إيرانية في دير الزور كانت مكلِفة بحيث تكبّد الحرس الثوري وميليشياته خسائر بشرية فادحة، وقد استهدفت الغارات الأميركية محيط مدرسة الإشارة في جوار قاعدة جوية في دير الزور حيث مواقع ميليشيات إيران .
إعتبارات أميركية للتحرّك العسكري في سوريا
إسرائيل من جهتها شنّت ضربات جوية موازية في الجنوب السوري تركّزت على ريف دمشق والسويداء حيث استهدفت مقرات عسكرية لقوات النظام وميليشيات حزب الله اللبناني فقُتل ما لا يقلّ عن ٣ عناصر لتلك الميليشيا في غارات ضد مواقع حزب الله في بلدات عقربا والسيدة زينب في ريف دمشق .
هذا التحرّك العسكري الأميركي في سوريا ينطلق قبل أي شيء من اعتبارات أميركية داخلية ليس أقلها اقتراب فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية وحاجة إدارة الرئيس بايدن الى إثبات قوة خياراته في المنطقة، انطلاقاً من دعم إسرائيل في حربها ضد “حماس” في غزة، وصولاً الى قوة واشنطن في ردع كل مَن تسوّله نفسه من طرف إيران وميليشياتها الاعتداء على المصالح والقوات الأميركية في المنطقة وفي سوريا تحديداً،
كما أن قرار الرئيس بايدن بتحريك الأساطيل الضخمة لمؤازرة إسرائيل في حربها تعرّض للكثير من الانتقادات الداخلية في واشنطن، وقد تم استهداف بعضٍ منها من قبل حزب الله والحوثيين ما ألزم البيت الأبيض بإيفاد رسالة قوية الى كل الأطراف المعنيين من أن أي استهداف لأميركا سيُستتبع بردٍّ سريع وحازم، من هنا قول وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن إن الضربات الأميركية استهدفت كل المواقع التي انطلقت منها العمليات ضد واشنطن وقواتها في الآونة الأخيرة .
قواعد اشتباك مضبوطة إقليمياً
هذا الموقف الأميركي الصارم سيتكرّر ويتصاعد في حال استهداف جديد للقوات الأميركية في المنطقة ولا سيما سوريا والعراق، فواشنطن مصمّمة على الحزم في الردّ على أي استهداف إيراني .
واشنطن ترسل عبر هذه الضربات التحذيرية والتأديبية في نفس الوقت رسالة واضحة الى إيران مفادها إن عدم مشاركة إيران وميليشياتها في الحرب على غزة لا يعني أن تتجرأ على تنفيذ عمليات ضد المصالح والقوات الأميركية في سوريا أو العراق، كذلك ترسل للرأي العام الأميركي الداخلي رسالة قوة أمام ما يمكن اعتباره حالة انكشاف ووهن أمام استهداف ميليشيات إيران في المنطقة لقواعد أميركا العسكرية ومصالحها،
فواشنطن تضغط أيضاً من خلال عملياتها العسكرية على إيران لمنعها من زجّ ميليشياتها في حرب غزة وعدم إمداد حزب الله اللبناني بأية أنواع من الصواريخ والأسلحة والأنظمة المتطوّرة للمسيّرات، وهي أي
الولايات المتحدة في نفس الوقت لا تريد التصعيد، لأنها تحتسب كل خطوة من خطوات ردّها العسكري منعاً لانزلاق الوضع الى مواجهة إقليمية لا تريدها واشنطن حالياً، ولكن بما لا يقلّ حزماً وصرامةً في الردّ، فهي لا تريد تعريض كافة قواتها العسكرية في المنطقة لحالة الخطر، وإيران بدورها ليست بعيدة عن تلك الحسابات الأميركية، وهي تحسب أيضاً كل خطوة أو هجوم ليبقى الأمر مضبوطاً ضمن الخطوط الحمر وقواعد الاشتباك الإقليمي بين واشنطن وطهران، فتبقى الردود المتبادَلة مضبوطة الطبيعة والقوة والإيقاعات لا سيما وأن وشنطن من جانبها لا تريد راهناً تحوّل الحرب بين حماس وإسرائيل الى حرب إقليمية، خصوصاً أن ثمة موجة غضب عارمة ضد ما تقوم به إسرائيل في غزة، والذي اعتُبر أنه بات يتجاوز حق الدفاع عن النفس ليصل الى مرتبة الإبادة الجماعية وارتكاب مجازر وجرائم حرب شنيعة في غزة، وبالتالي فإن الرأي العام العربي و الإقليمي المتعاطف مع الشعب الفلسطيني والغاضب من إسرائيل وسياسات واشنطن المنحازة اليها لن يكون سنداً لواشنطن في أية حرب إقليمية حيث سيكون وضع واشنطن وقواتها في المنطقة عندها صعباً جداً .
الفصل بين الجبهات شبه وهمي في المنطقة
المنطقة بالكامل على صفيح ساخن والفصل بين الجبهات شبه وهمي لأن كل تطوّر في مكان ما سيجرّ لا محالة الى تطوّر في مكان آخر من أمكنة الساحة الإقليمية المشتعلة، لكن أميركا لا تريد أن تزيد على كاهلها ملفات جديدة مضافة الى الملف الأوكراني- الروسي والملف الصيني- التايواني والملف الروسي، وبالتالي لا تريد أن تكون هذه المنطقة ملتهبة لكن من دون إغفال ضرورة الردّ على مَن يهاجمها في المنطقة، ومن هنا أهمية استمرار إبراز قوة الردع الأميركي، أقله لتجنّب الإحراج أمام الرأي العام الأميركي .
حزب الله ليس في حسابات واشنطن العسكرية
أمر مهم الإشارة اليه وهو أن واشنطن لا تضع حزب الله في حساباتها العسكرية لأنها تدرك تماماً أن الحزب ليس سوى فصيل من فصائل الحرس الثوري الإيراني، وبالتالي فإن إيران تدرك من جهتها أيضاً أنه لو استهدف حزب الله إسرائيل فإن الردّ الأميركي سيستهدف منشآت وقواعد عسكرية إيرانية، وحزب الله يعلم ذلك ولذا فهو يحاول تجنّب التورّط الكبير والانخراط في مواجهات حرب غزة، فيما لبنان يستقبل المبعوثين الأميركيين لإيصال الرسائل التحذيرية الواضحة الى طهران من بيروت وعبر قنوات التواصل مع حزب الله، من هنا فإنه من مصلحة الفلسطينيين وغزة تورّط الحزب وإيران لإخراج الحرب من إطارها الضيق الى إطار إقليمي تلتقط من خلاله “حماس” وفصائلها المسلّحة أنفاسها وتحصل على دعم ومؤازرة مباشرة تساعدها على متابعة المواجهة مع التوغّل الإسرائيلي في القطاع، لكن لا إيران ولا حزب الله في وارد الانغماس في الحرب لعدم جهوزية الرأي العام اللبناني الرافض للحرب، ولعدم قدرة لبنان على تحمّل تبعات أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل، وهو الذي لم يتعافَ كلياً الى الآن من التدمير الذي خلّفه الاسرائيليون عام ٢٠٠٦ .
سقوط وحدة الساحات وحسابات بميزان ” الجوهرجي”
قواعد الاشتباك اذاً لم تتغير في لبنان و حتى في سوريا بين إيران وميليشياتها من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى، وقد سقطت معها وحدة الساحات نتيجة التمريرات الإقليمية المضبوطة بين واشنطن وطهران، والتي تُقاس بميزان “الجوهري” كما يُقال، والتي لا تخلو من تبادل لعمليات وهجمات يجد فيها كلا الطرفين ما يكفي لإسكات أو طمأنة المنتقدين والرأي العام معاً لدى كلي الجانبين .
هكذا هي المشهدية الإقليمية انطلاقاً من سوريا حتى الآن وكل شيء يمكن أن يتبدّل في أي لحظة باتجاه تطوّرات دراماتيكية قد تبدأ باغتيالات نوعية ولا تنتهي بتورّط أطراف إقليمية أو دولية في حرب المنطقة، لكن من الآن وحتى ذلك الحين فإن لغز المواجهة الأميركية- الإيرانية في سوريا و العراق هو في كلمة السر التالية : التعاطي براغماتياً كي لا نضعف أمام حلفائنا وشعوبنا ولا نقوى أكثر بتخطينا الخطوط الحمر … فالمنطقة مفتوحة على كافة الاحتمالات السيئة .