يتساءل البعض عن السبب الذي يحدو بواشنطن الى تصعيد الوضع في تايوان واستفزاز الصين في هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة من الحرب الأوكرانية والمواجهة الدولية التي تدور رحاها ميدانياً في أوكرانيا ودولياً على أكثر من صعيد ديبلوماسي وإقتصادي وعسكري.
فهل الولايات المتحدة متهورة بفتح أكثر من “جبهة ” عليها في آن؟ وهل بمقدور إدارة الرئيس جو بايدن تحمّل تبعات التوترات الكبرى من أوروبا الى شرق آسيا؟
قد تكمن الإجابة على هذه التساؤلات في البحث عن الأهداف الاستراتيجية التي تسعى واشنطن لتحقيقها على صعيد الأقاليم المتفجرة.فهل يمكن مثلاً أن يخطر ببال أحد أن ما تقوم به واشنطن مقصود ومحسوب في آن، إنطلاقاً من نظرة جيو سياسية قائمة على ترجمة معادلة تفكيك محور الشرق الممتد من روسيا مروراً بإيران وصولاً الى الصين فكوريا الشمالية؟ما تقوم به واشنطن هو محسوب أيضاً لأن الحسابات السياسية لدى صانعي القرار الأميركي يعرفون بالتأكيد ما يمكن أن ينجم عن التوترات العالمية في تلك الأقاليم وما هي حدودها.
فبالنسبة لتايوان لطالما اعتبرتها الصين جزءاً من الأراضي الصينية، وجذور المشكلة عبر التاريخ تجد انطلاقتها من الحرب الأهلية في الصين في الأربعينيات من القرن الماضي بين القوميين الصينيين والشيوعيين، والتي انتهت بانتصار الشيوعيين وتشكيلهم حكومة في بكين وإعلانهم قيام “دولة الصين الشعبية”، فيما فرّ القوميون الى جزيرة تايوان وأعلنوا من هناك “جمهورية الصين” في تايبيه العاصمة.إنقسم العالم الى معسكرين : واحد يعترف بحكومة الصين الشيوعية في بكين، وآخر يعترف بجمهورية تايوان.الولايات المتحدة الأميركية من جهتها لم تعترف الا بحكومة تايبيه، وتسلمت تايوان مقعد الصين في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكل المؤسسات الدولية.في السبعينيات، إختلفت الحسابات الأميركية عندما أرادت واشنطن دق إسفين في العلاقات بين الصين والإتحاد السوفياتي، فطبقت واشنطن سياسة “التفرقة لتسود” وذلك بتقريب الصين منها وإبعادها عن موسكو، وذلك بين ١٩٧٢ ولغاية ١٩٧٩ حيث سحبت واشنطن إعترافها بحكومة تايبيه وأقرّت بحكومة بيكين الشرعية واعترفت بتايوان كجزء من الصين.في مقابل نهج الغموض الاستراتيجي، لا تزال بيجين تواجه واشنطن بمبدأ “سياسة الصين الواحدة” (One-China policy) والمقرّة في الإتفاقيات الرئيسية في الإجتماع السري الذي جمع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر مع رئيس الوزراء الصيني حينها شو أون لاي في يوليو 1971، وهو الإجتماع الذي مهّد لإقامة تبادل دبلوماسي بين البلدين، وخفض الوجود العسكري الأميركي في تايوان، وسمح بأن تحلّ الصين محلّ الأخيرة في مجلس الأمن والأمم المتحدة آنذاك.
لكن هذا الإعتراف تعرض لانتكاسة كبيرة مجدداً من طرف واشنطن عندما أصدر الكونغرس عام ١٩٧٩ قانون العلاقات التايوانية (Taiwan relations act) حيث أعلنت واشنطن بموجبه إلتزامها الدفاع عن تايوان، مقرّةً بحق تايوان في الدفاع عن نفسها وببيعها أسلحة دفاعية لمواجهة أي غزو صيني، واضعة أي واشنطن، خطاً أحمر بعدم استخدام القوة لتغيير الوضع في تايوان بغير الوسائل السلمية.غضبت الصين من هذا القانون ومن بيع أسلحة لتايوان، عندها تعهّدت واشنطن بتخفيض حجم مبيعاتها من الأسلحة لتايوان، فغضبت تايوان بدورها، ومن أجل إرضائها لم تحدد واشنطن مواعيد للصينيين حول تخفيض مبيعاتها لتايوان، ومنذ ذلك الحين أُقر الرأي في واشنطن على اتباع ما سوف يُعرف لاحقاً بسياسة الغموض الإستراتيجي.بقيت تايوان السبب الأهم للتوتر بين واشنطن وبيكين، مع إستمرار عزم الصين على إعادة ما تعتبرها “منطقة منشقة” إلى الوطن.تاريخياً، كانت جزيرة تايوان أو فرموزا وعاصمتها تايبيه مقاطعة صينية مدة 10 سنوات فقط، قبل التنازل عنها لليابان كمستعمرة عام 1895، ثم تسليمها لاحقاً إلى جمهورية الصين الوطنية في نهاية الحرب العالمية الثانية. غير أن تايوان إنفصلت مجدداً عن الصين عام 1949 عندما نقل رئيس الصين الوطنية يومذاك الزعيم تشيانغ كاي شيك حكومته إلى الجزيرة بعد انتصار الشيوعيون بقيادة ماو تسي تونغ في الصراع على السلطة في الصين. ومنذ ذلك الحين والصِلات بين تايوان والولايات المتحدة قوية، وكذلك صِلاتها مع اليابان وحلفاء الغرب، وقد سعت إلى تعزيز قدرة قواتها المسلحة على مقاومة أي غزو صيني محتم. وعلى الرغم من غياب علاقات ديبلوماسية بينهما إلا أن العلاقات الأميركية – التايوانية حافظت على وتيرة تعاون مرتفعة وهي تتصّدر تاريخياً مزّودي تايوان بالأسلحة.
قبل نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الحالي، كان لزميلها قبل ٢٥ عاماً نيوت جينجريتش رئيس مجلس النواب آنذاك زيارة الى الجزيرة عام ١٩٩٧، لكن في حينه لم تعترض الصين على زيارة جينجريتش لأنها كانت تستعد للإحتفال بإستعادة سيطرتها على هونغ كونغ، وكانت بيكين حريصة على إرضاء واشنطن التي كانت تحتضن الصين كدولة نامية صاعدة لدمجها في النظام العالمي، وكانت الصين تريد الخروج من عزلتها الديبلوماسية بعد أحداث ١٩٨٩ ومذبحة الميدان في حق الصينيين المطالبين بإصلاحات.جينجريتش كان زار الصين قبل زيارة تايوان متعهداً بتعزيز علاقات الصين مع الغرب وأميركا وعدم اعتراض واشنطن على إستعادة الصين لتايوان شرط عدم استخدام القوة بل بعملية ديمقراطية، انما عام ٢٠٢٢ تغيّرت الأمور وأصبحت والصين قوة عظمى لا يهمها إرضاء الغرب، فيما تعتبر بيجين نانسي بيلوسي شخصية مستفِزة للصينيين.لكن لا يجب أن يغيب عن بالنا أن تلك الزيارة لبيلوسي تُعتبر نقطة جيدة لمصلحة الولايات المتحدة التي تجاهد للعودة الى الساحة الدولية وإثبات وفائها بالتزاماتها مع حلفائها، كما تحاول حالياً مع العرب منذ قمة جدّة الأخيرة، وقد قرّرت واشنطن عدم الرضوخ للتهديدات الصينية، كما أنها لا تستهيب تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا وضد أوروبا، فحصول الزيارة يُعّد إشارة إيجابية ويعزز من صدقية الولايات المتحدة تجاه الإلتزام بحماية حلفائها، ليس فقط تايوان، بل دول عديدة في المنطقة، من بينها اليابان والدول العربية.
ردة فعل بيجين رغم أنها قوية إلا أنها تبقى محكومة بضوابط لا تسعى هي نفسها لتجاوزها بحكم الترابط المصلحي بين الصين والغرب، وبخاصة مع الولايات المتحدة، ما يُرجح عدم خروج ردات الفعل العسكرية وغير العسكرية عن نطاق السيطرة، فإطلاق صواريخ في مضيق تايوان أو خروقات جوية واسعة النطاق في محيط الجزيرة هي من الأمور التي لا تشكل تهديداً يؤدي لاندلاع مواجهة كبرى بين الجباريَن، وقد تصاعدت حدة التوتر بين واشنطن وبيجين بعد غزو روسيا لأوكرانيا، مع تسجيل امتناع بيجين الى الآن عن بيع أسلحة لروسيا.مؤخراً، قدّم عضوان في مجلس الشيوخ الأميركي “مشروع قانون لتعزيز الدعم لتايوان لعام 2022” بشكل كبير، مع تقديم مليارات الدولارات على شكل مساعدات أمنية، وإدخال تغييرات على القانون تدعم العلاقات غير الرسمية لواشنطن مع الجزيرة. ويهدد هذا القانون بفرض عقوبات شديدة على الصين في حال شنّها أي عدوان على تايوان،كما يبعث رسالة واضحة مفادها أنه لا ينبغي على الصين أن ترتكب الأخطاء التي ارتكبتها روسيا في غزوها لأوكرانيا لأن حسابات الحرب في أوروبا غير حساباتها في المحيط الهادي وبحر الصين.ففي حين تخوض واشنطن الحرب في أوكرانيا “بالواسطة”،فهي موجودة في شرق آسيا مباشرةً، وأي تعامل مع الحلفاء يجب أن يمرّ أولاً بمواجهتها هي.
خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، سيطرت حال من عدم اليقين وغياب الثقة على العلاقات الأميركية-الصينية، إذ كان الإضطراب والتوتر واحتدام التنافس أسياد الموقف في علاقات الطرفين لدرجة تخوُّف البعض من أن تُترجَم إلى مواجهة عسكرية بسبب السياسات الصارمة التي اتخذتها إدارة ترامب تجاه الصين بشأن العديد من القضايا، ومنها الممارسات التجارية للصين ورفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، واتهام الإدارة الأميركية لها بانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وسرقة التكنولوجيا الأميركية، ووضع مجموعة الإتصالات الصينية “هواوي” على اللائحة السوداء للولايات المتحدة لخطورتها على الأمن القومي الأميركي ووجود شبهات تجسس.راهناً، في محيط تايوان الخطر العسكري قائم، لذا سيعمل الطرفان الصيني والأميركي، ولمصلحة الجميع، على ضبط النفس وتجنُّب الحل العسكري والصراع المباشر لأن نزاعاً من هذا النوع سيؤدي إلى مواجهة نووية مباشرة بين الصين والولايات المتحدة، وهذا ما يتفاداه كلاهما إلى الآن على الأقل، في وقت تعيش فيه الصين ركوداً إقتصادياً، كما أن صبر سكانها ينفد بعد أكثر من عامين من القيود الصارمة المرتبطة بسياسة “صفر كوفيد”، فيما الحزب الشيوعي الصيني يركز على وتر العواطف القومية لصرف الإنتباه عن التباطؤ الإقتصادي الذي تعرفه الصين، وتغطية الفشل في تجاوز المشكلات الاقتصادية التي تعرفها البلاد، وهنا تكون تايوان هي نقطة التجاذب المحورية في الموضوع.
لذا وفي حين تتطور الحرب في أوكرانيا الى حرب استنزاف وسباق مع الوقت عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً وإقتصادياً في أوروبا، وبين الغرب وروسيا بوتين، فالوضع في بحر الصين يقتصر أقله الى الآن على استعراض القوة العسكرية الصينية في مواجهة الولايات المتحدة قبل مؤتمر الحزب الشيوعي الذي يُعقَد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ويُفترض أن ينتخب الرئيس الصيني شي جين بينغ لولاية ثالثة أميناً عامّاً للحزب، مع عدم تخلي بيجين عن العقوبات الإقتصادية على تايوان، كما على الأسماك والفاكهة المستوردة من الجزيرة، ومنع تصدير الرمال الطبيعية إليها، وهي تُعتبر عقوبات ذات طابع “رمزي” أكثر منها عقوبات عملية.