أي حرب أهلية تنتهي بغالب ومغلوب، تبقى جمراً تحت الرماد وجرحاً نازفاً لا يلتئم مهما مرّ عليه من وقت. فأي وطن هذا الذي يُبنى على التخوين والتنمّر والمزايدة والتمنين وعلى الكيل بين أبنائه بمكيالين؟!!
يوم زار البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ، الأراضي المقدسة للمشاركة في زيارة البابا في أيار 2014، قامت قيامة المزايدين والمُخونين عليه خصوصاً بعد لقائه اللبنانيين المبعدين قسراً الى إسرائيل، هم الذين في معظمهم دفعوا فاتورة تخلي الدولة عنهم مراراً. تخلّت دولتهم عنهم في ستينات القرن الماضي، يوم استسلمت أمام سطوة سلاح الفلسطينيين الذين حولوا مناطقهم في جنوب لبنان إلى "فتح لند" وجعلوا منهم ومن بيوتهم وأملاكهم أهدافاً مباحة للقصف الاسرائيلي من جهة ،ومتاريس بشرية مستباحة من مقاتيلي "فتح" ومن لف لفيفها من جهة أخرى.
تخلّت دولتهم عنهم في مطلع حرب الـ1975، يوم تركت مواطنيها فريسةً أمام المجموعات الفلسطينية وملحقاتها اللبنانية وطلبت من قواها العسكرية الشرعية "تدبر راسها". فكان الخيار إما الإستسلام أمام انتهاك الأرض والعرض وصولاً الى الموت الحتمي أو المواجهة باللحم الحي والاستعانة حتى بإسرائيل من اجل الصمود بوجه "دواعش" تلك الحقبة. نعم، دولتهم دفعتهم الى أحضان إسرائيل وفي الوقت ذاته إستمرت لسنوات بدفع رواتب عسكريي الجيش اللبناني بقيادة الرائد سعد حداد والذين شكلوا نواة "جيش لبنان الجنوبي" الذي للمفارقة كان عابراً للمذاهب وضم شيعة ودروزاً وسنة ومسيحيين.
تخلّـت دولتهم عنهم عقب 25 أيار 2000 حين تركتهم لمجهولهم ولتهديدات الذبح بأسرّتهم التي وصلت الى مسامعهم عن لسان أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله. فلم تعالج ملفهم بمسؤولية وجدية بل تحوّل ملف المبعدين قسراً الى اسرائيل الى مادة للاستثمار السياسي والاستغلال العاطفي بلغت أوجها حين أدرجت ضمن بنود ورقة "مار مخايل" بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" عام 2006 لحرف الانظار عما تضمنته هذه الورقة من إضفاء شرعية للسلاح غير الشرعي ولعنجهية "الحزب"، وبقي هذا البند حتى اليوم حبراً على ورق.
كما أن اللبنانيين، لم ينسوا كيف أن بعضاً من البيئة الشيعية إستقبل الاسرائيليين خلال اجتياحهم لبنان عام 1978 بالورد والارز. لم ينسوا المتربع على كرسي ارفع منصب مخصص للشيعة رئيس حركة "امل" الرئيس نبيه بري يتحدث عن "البغال" التي استخدمها "حزب الله" ومرر عليها السلاح عبر المناطق الخاضعة للنفوز الاسرائيلي خلال المواجهة الدموية بين "الحركة" و"الحزب" في أقليم التفاح في أواخر الثمانينات.لم ينسوا فضيحة "إيران غيت" و"التعاون والتنسيق" بين إيران الخامنئي وإسرئيل برعاية أميركية لإتمام صفقة اسلحة عام 1985. لم ينسوا ان العدد الاكبر ممن اوقفوا بتهمة التعامل مع اسرائيل منذ العام 2000 هم من بيئة "الحزب".
بين دولة تخلت عن أبنائها - لا بل حتى حمّلتهم وِزر خطاياها - وبين شريحة مسكونة بعنجهية السلاح وفائض القوة تخوّن وتهدر الدم بلا اي رادع اخلاقي ولا تسأل عن عواقب تصرفتها الرعناء - حيث تزعق "صهيوني صهيوني" بمناسبة وبغير مناسبة - ليته فعلها البطريرك الراعي عام 2014 وعاد الى لبنان برفقة المبعدين قسراً الى اسرائيل فارضاً أمراً واقعاً وواضعاً حداً لمن يتباهون بأن ولاءهم ومالهم وسلاحهم وكل ما لديهم من إيران ويزايدون على من دفعوا ثمن مشروع ضرب لبنان. ليته فعلها ولم يراهن على حل هذا الملف بقوة المنطق والمسؤولية الوطنية والدبلوماسية لأن "الحزب" لا يفهم إلا بدبلوماسية القوة.