كتب سعيد غريب: حيال كلّ حرب وكلّ خطر أمني تعود إلى الصدارة اشكاليّة المواجهة بين الحرّية كقيمة أساسية في العمل الصحافي من جهة، وبين الأمن كضرورة للحفاظ على الأفراد والمجتمعات من جهة ثانية. ولعلّها تُطرح بحدّة أكبر في هذه المرحلة، نظراً للمنحى الخطير الذي بلغته الحروب المتصاعدة من جهة، وقدرة المجموعات على نسف الأنظمة بما يشبه نسف الدول عينها، من جهة ثانية. وواقع الحال اليوم أنّ الاعلاميين المهنيين الباحثين عن الحق والحقيقة يواجهون استحقاقات جمّة، تتمثّل بالتطورات الدراماتيكية للأحداث، في منطقتنا والعالم أجمع، فيما يتعيّن على أبناء المهنة في الاعلام المكتوب والمسموع والمرئي مواكبتها وتغطيتها. كما تتجلّى بالتحدّيات التي يفرضها التحوّل الكبير في وسائل التواصل.
ففي ظلّ المنافسة العشوائية التي تطرحها هذه التحديات، ووسط الضخّ الهائل من المعلومات، تستدعي هذه التحوّلات من الاعلاميّين مقاربة عقلانيّة ونقديّة تمنع ضرب الصدقيّة، وتحول دون القضاء على المهنيّة. فبدلاً من الانجرار إلى اعتماد نقل آليّ لما ينشر على الانترنت في وسائل الاعلام التقليدية، يجدر بالاعلام المهنيّ أن يتّجه إلى قراءة معمّقة لما يُبثّ الكترونياً، من خلال التوقف عند مضمونه والتدقيق بمصادره وتقصّي أهدافه والبحث في كلّ مرّة عن حجم صدقيّته. فيرتفع بذلك التحدي الذي تفرضه المسؤولية الدقيقة في الحفاظ على مستوى المهنة وأمن المجتمع. ولعلّ أبسط الأساليب العمليّة في التعاطي مع هذه المواد المنشورة الكترونياً تقضي بعدم اغفال مضمون هذه المنشورات الالكترونية ومتابعتها والسعي إلى التدقيق في صحّتها أو تكذيبها، في حال لم تكن صحيحة بدل الانجرار في بثّها. إنّ الحرص على الدّقة والتوازن والموضوعيّة يغذّي وسائل الاعلام المهني، فتشكّل هذه القيم المهنيّة والأخلاقية الخيط الرفيع والمتين الذي يمنع انتهاك أصول المهنة وقواعدها الاحترافية من جهة، ويضمن أمن المجتمع من جهة ثانية.
إنّ هذا الهامش من الحريّة المطلقة الذي تطرحه وسائل الاعلام الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي يضع المهنيين الصحافيين أمام مواجهة على الصعيد العملي، حيث باتوا في سباق غير متكافئ مع ما يسمى «الصحافي المواطن» الذي حاز حريّة البثّ والنشر، من دون أن يمتلك في الحدّ الأدنى القدرات الاحترافية والمهارات. وأصبحوا يجدون أنفسهم أمام كمّ من المعلومات التي يجدر التدقيق بها، فكم بالحريّ اذا كان مصدر المعلومة في موقع استغلال لهذه الوسائل لأهداف مشبوهة. إنّ هذا التفوّق الساحق لتكنولوجيا الاتصالات حتى الوصول إلى الذكاء الاصطناعي واستخدامه، بشكل خاص في الاعلام، يحمل مخاطر مستجدّة حيث نشأت مواقع محدثة وأبرزها TikTok. نقع حالياً في مرحلة أمنية خطيرة سمتها الأساسيّة الارهاب العمليّ والفكريّ، ما يجعل الخشية ترتفع مما تستطيع الجماعات الارهابية والمنظمات غير الشرعية تسويقه عبر الشبكات الافتراضية والعمليّة، لنشر الرعب واستقطاب الانصار من الشباب بشكل خاص.
لقد أيقظت جريمة TikTok الأخيرة بحق الأطفال العائلات والمدارس والتربويين ووضعت المجتمع برمّته، وفي طليعته الاعلاميون، أمام استحقاق كبير يتطلّب تضافر الجهود كافة، حفاظاً على الأمن والحرية معاً، انطلاقاً من ضرورة التكامل بين القيمتين، من أجل مجتمع مستقر وآمن وديموقراطي في آن. إنّ جريمة اغتصاب الأولاد، التي قد تؤدي إلى الموت، يجب الّا تمرّ من دون محاسبة، فلا نقول اذا اقتيد أحدهم إلى السجن فاقامته لن تطول. إنّ هذه المحاسبة قد تبدأ بتفعيل حكم الاعدام الذي صاغه تشريعياً أولاً العميد ريمون اده (صدر القانون في شباط 1959) ما أسهم في استتباب الأمن على أثره. ولعلّ هذا النوع من الأحكام رغم معارضة دول كثيرة له يردع المجرمين الذين يسرحون ويمرحون. أمّا TikTok الذي بات يشكل خطراً على المجتمع نظراً لانتشاره الواسع ومضمونه المتفلّت إلى أقصى الحدود واستقطابه لفئة عمرية هشة أصبح من الضروري حظره، من دون أي تردّد أو تلكؤ.
يواكب الاعلاميون عصراً جديداً بحلوه ومرّه. ولا يبدو تغيير قواعد اللعبة سهلاً، ويحتّم عليهم مزيداً من التفكير والتعاون مع القوى الحيّة الأخرى في المجتمع، حفاظاً على حريّة مشرقة ولاستعادة دور الشاشات النقيّة. فما يمرّ على بعض شاشاتنا من برامج ودراما لا يقلّ خطورة عن بعض ما يعرضه TikTok، واطلالات «المفقّسين الجدد» وما يحملونه من انتاجات ومقابلات خطيرة وتافهة في آن كفيلة بتدمير مجتمع بكامله.