بداية لا بد من التأكيد على أن قمة جدّة التي أُسدل الستار حول أعمالها أمس السبت، كانت قمة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قمة تكريسه على المسرح الدولي والإقليمي والعربي قائداً للعالم العربي المعاصر القائم على رؤية مستقبلية للنمو وتطوير المنطقة العربية، يتشاركها مع نظرائه أمراء وملوك الخليج كافة.أن ما حصل في القمة ومن مجريات الاحداث واللقاءات والبيانات والتصاريح التي صدرت وبخاصة عن الجانب الأميركي المشارك ينبؤنا بانطلاق مرحلة جديدة في الشرق الأوسط قوامها مصالح العرب والخليج أولاً، ووقف الاعتماد على الغير، لا بل قيادة المنطقة بشراكات جديدة واستعادة المبادرة العربية في تقرير مصير المنطقة.ما كنا توقعناه ما قبل انعقاد القمة حصل بحيث شعر الأميركي أن ثمة شيئاً ما في المنطقة قد تغيّر، خاصة مع الدول الحليفة التاريخية للولايات المتحدة، بحيث انتهى زمن الخضوع والإصطفاف الأعمى الى ادأي قوة، كما انتهى زمن أُحادية التحالفات، فالمملكة والخليج مرتبطان باتفاقيات إقتصادية وتجارية تنموية مع الصين بما لا يمنع ارتباطهم باتفاقيات سياسية وأمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة، كل ذلك انطلاقاً من المصلحة الخليجية والعربية أولاً.
مفاوضات مع إيران وفتح أجواء مع إسرائيل هي تركيبة ديبلوماسية جديدة انطلقت من جدّة، فإيران أمام اختبار كبير : اذا كانت جادة بإقامة علاقات جوار طيبة وإيجابية مع جيرانها الخليجيين وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية، فادإن الباب شُرّع لها من الآن على مصراعيه، خصوصاً وأن الأولوية لدول المنطقة التنمية والسلام لا الحروب والتخلف.فاذا أحسن الإيرانيون تلقّف الفرصة السانحة و انتجوا وجيرانهم الخليجيين إنقلاباً جذرياً في المعادلات الإقليمية والدولية، واذا لم يتلقّفوا اليد الممدودة، عندها ثمة مَن سيتولى التعامل مع الإيرانيين أميركياً واإسرائيلياً.
فتح الأجواء مع إسرائيل مقابل استرداد جزيرتي تيران وصنافير يشكل بادرة ديبلوماسية هامة تُرسل إشارات إيجابية حول إمكانية أن تصبح إسرائيل حليفاً للمملكة، كما سبق لولي العهد محمد بن سلمان أن قالها في مقابلته الشهيرة مؤخراً.لكن يبقى على إسرائيل أن تستوعب فكرة أن أي تطبيع مع المملكة يجب أن يسلك طريقاً إلزاميةً هي حلّ القضية الفلسطينية وفق صيغة الدولتين، وقد أكد وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير في مقابلة مع شبكة سي أن أن الأميركية، أن بلاده لن تطبّع العلاقات بشكل كامل مع إسرائيل حتى يتم التوصل إلى حل الدولتين مع الفلسطينيين.
العناد الإسرائيلي يرتدّ على إسرائيل لأن الوقت ليس في صالحها، فلا هي قادرة على إبادة الفلسطينيين ولا الفلسطينيون مستعدين للتخلّي عن حقهم في دولة عاصمتها القدس الشرقية، ناهيك عن أن إسرائيل أمام تحدٍ إقليمي مصيري الا وهو الملف النووي الإيراني والتهديد المستمر لأمنها واستقرارها.أمس السبت، أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، أن قرار السعودية برفع القيود المفروضة على جميع شركات الطيران لاستخدام مجالها الجوي ليس إشارة إلى أي دفع باتجاه إقامة علاقة مستقبلية مع إسرائيل، نافياً أن يكون ذلك "تمهيداً لخطوات لاحقة".
وانطلاقاً من مجمل هذه المعطيات، يجب توقع إنطلاقة جديدة للمفاوضات بين الرياض وطهران بوساطة عراقية، بالتزامن مع فتح السعودية لمجالها الجوي أمام جميع الناقلات المدنية، الأمر الذي يُفسح المجال للرحلات من وإلى إسرائيل عبر الأجواء السعودية."العراق الوسيط" وفي خطوات جبارة، يحاول العودة الى البيت العربي والخروج من المحور الإيراني رغم أن دون هذه المحاولات صعوبات وأشواك مزروعة، لكن القاظمي الشيعي العربي والصديق لكل من الأميركيين والخليجيين والإيرانيين قادر على تدوير الكثير من الزوايا لمصلحة العراق أولاً والمنطقة الخليجية ثانياً، فالعراق جزء من الخليج ومن العالم العربي، وهذا من بين أبرز الرسائل التي سجلتها القمة وأعمالها.
الأميركي تلقى الرسالة السعودية، فمصالح المملكة تقرر طبيعة علاقاتها مع الآخرين ومن خلالها دول الخليج والمنطقة العربية وبخاصة مصر والأردن والعراق.فهدف السعودية هو تحقيق التنمية والرفاه للمملكة والجوار الخليجي والعربي، ما يعني وجوب تأمين الإستقرار والأمن الجماعي، وما على ايران والعراق سوى ملاقاتها في منتصف الطريق لأنتاج صيغة منطقة متجهة نحو المستقبل. النظام الإيراني في المنطقة حالياً معزول بانتظار تغيير سلوكه، لكن المملكة لا تنظر الى الملف الإيراني على أنه جزء من استراتيجية أوسع، بل على أنه هو الهدف المنشود للتمكن من السير بالتنمية والبناء والتطور، فالبلدان حالياً هما في حال حرب، ولا علاقات دبلوماسية بينهما، في وقت تسود حال سلم بين السعودية وإسرائيل من دون علاقات دبلوماسية.
على طهران أن تقتنع بأن أي تقارب خليجي معها ينطلق من ضرورة أن تتنازل إيران عن مشروعها التوسعي في المنطقة وأن تحل مشكلة أذرعها من ميليشيات ومنظمات، سواء في العراق أو اليمن أو سوريا أو لبنان.دولة الإمارات مستعدة لتبادل سفراء بينها وبين إيران، وهذه الخطوة تفترض من طهران العمل على وقف تدخلاتها في المنطقة الخليجية وأنهاء الحرب في اليمن وضبط إطلاق المسيّرات والصواريخ على الأراضي السعودية والإماراتية.
أن تنفتح إيران على الخليج يعني أن تقبل بالتنازل لا أن تحاول إقناع جيرانها بوجهة نظرها وسياساتها لأن هذا النهج مر عليه الزمن وأثبت عقمه.لا أحد يريد التصادم مع إيران في المنطقة، لكن عليها أن تتوقف عن استفزاز دول المنطقة بتدخلاتها وميليشياتها .
الرئيس الأميركي جو بايدن، طرح في خلال القمة، ولقاءاته، رؤية جديدة للدور الأميركي في المنطقة وفق خطة استراتيجية للشرق الأوسط الغني بموارد الطاقة، مؤكداً أن الولايات المتحدة لن تتخلى عنه ولن يترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران، ولهذا الكلام مترتبات ليس أقلها التزام واشنطن مصالح دول المنطقة وحمايتها والدفاع عنها وإزالة الموانع والعوازل الأميركية الداخلية تجاه دول المنطقة.
إن الإستقرار في المنطقة هو هدف أية تفاهمات مع إيران .
ويمكن القول ختاماً إن المنطقة ما قبل قمة جده للأمن والتنمية غير ما بعدها والأيام والأسابيع المقبلة ستكون محك الاختبارات لمختلف التوجهات والوعود والالتزامات .يبقى أن لبنان وسوريا هما الحلقة الأضعف لانهما ساحتي الصراع كما هما ساحتي الإنفراجات،فاذا أرادت إيران تليين مواقفها والانفتاح، سيتأثر لبنان تسهيلاً لاستحقاقاته، ومن بينها التفاوض على ترسيم الحدود البحرية، وفي سوريا تسريع التسوية السياسية لأنتاج صيغة حكم جديدة والضغط على تركيا للتخلي عن مشروع هجومها شمالي سوريا، واذا اشتد الصراع الروسي الأميركي، تختلط الأوراق في سوريا ويتبعها لبنان بالتبعية للمنطقة في ظل انتظار سياسي خليجي وعربي للبنانيين كي يعالجوا مشكلة الإحتلال الإيراني لبلادهم، الأمر الذي ما دونه صعوبات ... إنما يبقى أن للجيش اللبناني دور ولقائده استحقاق .