كتب شارل جبور في صحيفة نداء الوطن:
تُختصر المشكلة الأساسية بين لبنان وإسرائيل، منذ نحو ستة عقود، بعجز الدولة اللبنانية عن منع استخدام أراضيها منصة لعمليات عسكرية تُنفَذ ضد إسرائيل، خلافًا لإرادة الدولة واتفاقية الهدنة، التي سقطت من الجانب اللبناني لا من الجانب الإسرائيلي. وقد بدأت هذه الإشكالية مع دخول الفصائل الفلسطينية إلى لبنان منذ منتصف ستينات القرن الماضي، وتفاقمت بعد حرب عام 1967، وصولًا إلى اتفاق القاهرة عام 1969، الذي قونَن وشرّع تنازل الدولة عن جزء من سيادتها.
ومنذ تلك اللحظة، سقطت الدولة اللبنانية عمليًا، إذ لم تعد تسيطر على أرضها وحدودها، وظهر من يتقاسم معها القوة في المرحلة الأولى، قبل أن يحوِّل حربه الأساسية ضدها في المرحلة الثانية، سعيًا إلى التحوّل إلى القوة الوحيدة المسيطرة على الأرض. وكان يدرك أن مشكلته الأولى ليست مع إسرائيل، بل مع الدولة اللبنانية، لأنه في اللحظة التي تستعيد فيها دورها السيادي ينتفي دوره غير الشرعي.
ولعب حافظ الأسد دور "العراب" في هذا المسار، بدءًا بتسهيل إدخال الفصائل المسلحة الفلسطينية، وصولًا إلى إدخال الحرس الثوري الإيراني. فقد اعتبر أن تحويل سوريا إلى لاعب إقليمي يتيح له تثبيت سيطرته على سوريا كأقلية علوية تحكم أكثرية سنية. ومنذ اللحظة الأولى سعى إلى إبعاد أنظار السوريين عن الداخل، فحيّد الجولان، ومنع أي أعمال مسلحة من أرضه، وسهّل بالمقابل إدخال المسلحين إلى لبنان، الذي تحوّل، بتشجيعه، إلى ساحة صراعات مثلثة: بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية؛ بين الدولة والفصائل؛ وبين اللبنانيين أنفسهم، بين رافض للأعمال المسلحة ومؤيد لها. وفي الوقت ذاته، قدّم الأسد نفسه كـ "صليب أحمر" للدولة والفلسطينيين واللبنانيين، وللولايات المتحدة والدول العربية وحتى إسرائيل.
وتُظهر أي مراجعة للمرحلة التي سبقت انهيار الدولة اللبنانية أن الدور الأساسي في هذا الانهيار كان للأسد، الذي إضافة إلى عقيدته السياسية، أراد إشغال السوريين بدور إقليمي، فأمسك بالورقتَين اللبنانية والفلسطينية. وبعد إخراج إسرائيل منظمة التحرير من لبنان عام 1982، ساهم في إدخال الحرس الثوري الإيراني. وعلى الرغم من أن هذا الحرس ولد مع الثورة عام 1979، فإن دخوله إلى لبنان حصل بعد عام 82، ما يؤكِّد أن الأسد كان بحاجة إلى تنظيمات غير لبنانية لإدارة الصراعات، وإلا لكان بإمكانه التفاهم مع أحزاب "الحركة الوطنية" لو كان هدفه تنظيم المواجهة مع إسرائيل.
وبعد خروج ياسر عرفات من بيروت، انتقل الأسد من إدارة الصراع لمصلحته، إلى التحكُّم الكامل بمساره. فقد كان أبو عمار يخاطب الوجدان السني، وهو ما كان الأسد يخشاه في لبنان وسوريا، فيما شكلت "الحركة الوطنية" امتدادًا، بشكل أو بآخر، للحالة الفلسطينية، فأراد القطع مع هذه المرحلة عبر رعاية حالة نقيضة، تمثلت بالشيعية السياسية المرتبطة بإيران، التي تحالف معها منذ بدايات ثورتها. ولم يكن دخول الحرس الثوري إلى لبنان ممكنًا من دون تسهيل مباشر من الأسد، الذي أمّن عبوره عبر سوريا، خصوصًا أن صدام حسين شكل الحاجز الجغرافي أمام تمدُّد هذه الثورة، ما جعل خط طهران-دمشق ممرها الإلزامي.
وخلاصة القول: أولًا، إن الأسد كان "العراب" لإدخال الفصائل والتنظيمات التي قوّضت السيادة اللبنانية، وهو "عراب" تحويل لبنان إلى ساحة صراعات. وخلاصة القول ثانيًا، إن الحروب الإسرائيلية على أرض لبنان جاءت نتيجة تعطيل الأسد دور الدولة اللبنانية، التي عجزت عن منع استخدام أراضيها تنفيذًا لأجندات إقليمية لا تمت إلى المصلحة الوطنية اللبنانية بصلة. وخلاصة القول ثالثًا، إن هذه التنظيمات، وآخرها "حزب الله"، مشكلتها الأولى هي مع الدولة اللبنانية، لأن وجودها مرتبط بمنع قيام الدولة واحتكارها القوة والسلاح والسيادة.
وطي هذه الصفحة الممتدة منذ ستين عامًا لا يكون حصرًا عبر المفاوضات، ولا فقط عبر إحياء اتفاقية الهدنة، ولا من خلال الحديث المجرد عن السلام، بل عن استنساخ النصر الوارد في اتفاق الطائف، في البند الرابع المتعلِّق بالعلاقات اللبنانية السورية، وإسقاطه على العلاقة مع إسرائيل: إن لبنان لا يسمح بأن يكون ممرًا أو مستقرًا لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن إسرائيل.
فالحرب اللبنانية وسقوط الدولة بدآ تحديدًا من هنا، أي من خلال استخدام الأرض اللبنانية منطلقًا لأعمال عسكرية، واستمر هذا الواقع الشاذ حتى اليوم. وعلى الدولة أن تكون حاسمة على هذا المستوى، فإذا كان هناك من مبرِّر لحرب مع إسرائيل، فيجب أن تخوضها الدولة وحدها، لا تنظيمات هدفها الأول شلّ عمل الدولة تمهيدًا للحلول مكانها.
إن استعادة الدولة اللبنانية قرارها السيادي، وضبط حدودها، واحتكارها الشرعي لاستخدام القوة، ليست شروطًا تفاوضية مع إسرائيل، بل شروط وجودية للدولة نفسها. ومن دون تحقيق ذلك، سيبقى لبنان يدور في الحلقة المفرغة ذاتها. وهذا يتطلّب إعلانًا واضحًا وصريحًا من الدولة بمسألة بديهية جدًا وتتمثل بعدم السماح بأن تكون أراضيها منطلقًا للإضرار بأمن إسرائيل، وما ينطبق على الأخيرة ينسحب على سوريا.
ويشكِّل هذا الإعلان استكمالًا لقرارات الحكومة في الخامس والسابع من آب الماضي، إذ من دونه تبقى هناك مساحة رمادية وضبابية يستفيد منها "حزب الله". ومع صدور هذا الإعلان، يصبح أي كلام عما يُسمى "مقاومة" موضع ملاحقة عسكرية وقضائية.
وتكمن أهمية هذه الجملة، أولًا، في أنها تختصر جوهر الأزمة اللبنانية كون لبنان كان ممرًا للفصائل الفلسطينية عبر سوريا، ومستقرًا لها. وكان مستقرًا لهيمنة نظام الأسد، ومن ثم أصبح ممرًا للحرس الثوري عبر سوريا، ومستقرًا له في لبنان بهدف إلحاقه بإيران ومحورها. وكان ممرًا ومستقرًًا لتغييب دور الدولة اللبنانية.
وتكمن أهمية هذه الجملة ثانيًا في تقديم أمن لبنان على أي أمن آخر، لأن الهدف الفعلي لهذه التنظيمات كان ولا يزال ضرب الدولة اللبنانية. وستبقى مهمتها الأولى منع الدولة من استعادة دورها، لأن استعادة هذا الدور تعني نهاية دور تلك التنظيمات.
فالمدخل الأساس لعودة دور الدولة الفعلية يكمن في عدم سماحها بأن "يكون لبنان ممراً أو مستقرًا لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن إسرائيل".